بعد نحو ثمانية أشهر من المعارك بين جيش الاحتلال الإسرائيلي وحزب الله اللبناني، يبدو جلياً أن إسرائيل فقدت الكثير من هيبتها وقوة ردعها بالإضافة لعوامل ومفاهيم أخرى لطالما أولتها أهمية وتفاخرت بها إلى أن حطّمتها عملية "طوفان الأقصى"، التي نفذتها حركة حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، واستمر تآكلها على الجبهة اللبنانية أمام حزب الله مع عجز إسرائيلي عن توفير الحلول، وهذا ما قد يدفع إسرائيل نحو تصعيد ملموس في لبنان، ربما يكون قريباً، في ظل الإخفاقات المتتالية.
تحولت مناطق واسعة في الجليل الأعلى في شمال فلسطين المحتلة وهضبة الجولان السوري المحتل، في الأيام الأخيرة، إلى كتلة ضخمة من اللهب، حيث انتشرت النار التي التهمت الأخضر واليابس في كل مكان والدخان خنق من تبقّى في المنطقة من المستوطنين والسكان، هذا المشهد هو واحد من مشاهد الردع المتآكل والمحترق بالنيران الذي يؤكد حرمان المنطقة من الأمن والأمان. ومنذ بداية الحرب الحالية لا يزال عشرات آلاف الإسرائيليين خارج منازلهم الواقعة في مناطق ومستوطنات قريبة من الحدود اللبنانية، وحتى لو عادوا إليها لاحقاً فسيجدون جزءاً كبيراً منها قد دُمّر بصواريخ ومسيّرات حزب الله التي استهدفت أيضاً العديد من المواقع العسكرية الإسرائيلية منذ بداية الحرب.
في ظل هذه المعطيات والضغط الكبير من قبل سكان المستوطنات الشمالية ورؤسائها على الحكومة الإسرائيلية بالإضافة لتصريحات مسؤولين إسرائيليين، سياسيين وعسكريين، يبدو من المرجّح توجيه إسرائيل ضربة قوية لحزب الله، على أقل تقدير، في الفترة القليلة القادمة تكون مختلفة عن سابقاتها، لكن هذا إذا حدث لن يعني استعادة إسرائيل ردعها بل قد يقابله رد شديد ودخول عملي في حرب أوسع خارج حدود النار التي يلتزم بها الطرفان منذ ثمانية أشهر. وما يعزز أيضاً من فرص وقوع الحرب هو صب دعاتها من بعض وزراء حكومة الاحتلال الزيت على النار، وليس آخرهم إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش فهناك آخرون أيضاً، رغم إدراك إسرائيل أن حرباً في لبنان لن تكون نزهة وستكون عواقبها شديدة في حال فشل الحلول الدبلوماسية للتوصّل إلى تسوية.
إعداد الإسرائيليين لحرب مع حزب الله
يعتقد بعض قادة جيش الاحتلال الإسرائيلي، بحسب ما نشرته صحيفة هآرتس العبرية اليوم الأربعاء، بأنه يجب تكثيف القتال في لبنان، ويرون أن تصريحات رئيس هيئة الأركان هرتسي هاليفي، أمس الثلاثاء، بشأن اقتراب ساعة الحسم هي محاولة لتجهيز الإسرائيليين لاحتمال فتح جبهة حرب واسعة أخرى، ذلك أنهم ليسوا على دراية بعواقب الحرب مع حزب الله. وكان هليفي قد قال خلال زيارته الجبهة الشمالية على الحدود مع لبنان: "نقترب من النقطة التي سيتوجب فيها اتخاذ القرار"، مضيفاً أن جيش الاحتلال "جاهز ومستعد للانتقال إلى الهجوم"، واستطرد قائلاً: "نحن هاجمنا حزب الله على مدار ثمانية أشهر، ويدفع حزب الله ثمناً باهظاً جدّاً جدّاً. لقد قام حزب الله برفع الوتيرة في الأيام الأخيرة ونحن مستعدون بعد عملية جيدة جداً شملت التدريبات وتمريناً على مستوى قيادة الأركان حول الانتقال إلى الهجوم في الشمال". بدوره، أوعز وزير الأمن يوآف غالانت، أثناء زياته لمقر الفرقة 91، أمس الثلاثاء، بالاستعداد لعملية عسكرية قوية ضد حزب الله.
وتتسق تصريحات هليفي، وفق هآرتس، مع موقف الجيش الإسرائيلي في مناقشاته الأمنية في الأيام الأخيرة التي بموجبها يجب تكثيف الحرب مع حزب الله، ولكنه يخشى في الوقت ذاته من أن الجمهور ليس واعياً لعواقب حرب واسعة على الجبهة الشمالية. وبتقدير جيش الاحتلال فإن حرباً على جبهة لبنان ستتسبب بأضرار كبيرة ليس فقط في المنطقة الشمالية من فلسطين المحتلة، ولكن أيضاً في منطقة تل أبيب الكبرى، وهو ما سيتطلب قوات كبيرة. مع هذا، يستعد الجيش لاحتمال إصدار المستوى السياسي أوامره لبدء الهجوم، وعرض الجيش في مناقشاته احتمالات حرب محدودة في جنوب لبنان، ولكن أيضاً سيناريوهات لحرب أوسع قد تؤدي الى اشتعال جبهات أخرى.
ويأتي موقف الجيش الإسرائيلي بشأن تكثيف القتال في لبنان على خلفية ازدياد الصواريخ والمسيّرات التي يطلقها حزب الله والحرائق الهائلة في الأيام الماضية، التي أدت إلى تعميق الشعور بغياب الأمن الشخصي لدى سكان المنطقة ومستوطنيها، كما أتت على أكثر من 22 ألف دونم من الأحراج والمحميات الطبيعية والمراعي وغيرها، وأحدثت ضرراً كبيراً. وتبدو مهمة إعادة المستوطنين إلى منازلهم في المناطق الشمالية عسيرة على الجيش الإسرائيلي بسبب الفراغ الذي يتركه المستوى السياسي بعدم اتخاذ القرارات.
من جهته، كتب المحلل العسكري عاموس هرئيل، في هآرتس، أن الحياة في الشمال كما هي عليه في الجنوب، حيث يترك رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أرضاً محروقة، ويبدو أن سقوط إسرائيل في فخ حزب الله يتعمّق. ويرى هرئيل أنه لا يلوح في الأفق حل من قبل الحكومة للجبهة الشمالية، التي باتت أكثر سخونة، ما قد يدفع السكان لترك المنطقة إلى غير رجعة بسبب الإخفاق الإسرائيلي في توفير الحلول، وفسّر وقوع إسرائيل في "فخ حقيقي" في الشمال بعجزها عن فرض وقفٍ لإطلاق النار على حزب الله طالما أن الحرب مستمرة في قطاع غزة، فيما تمكّن الحزب من فرض منطقة عازلة على إسرائيل "في أراضيها" باتت خالية من السكان، ولفت إلى أن الحرائق كانت متوقّعة على غرار ما حدث في حرب لبنان الثانية عام 2006، فيما قوات الإطفاء مقيّدة في عملها وتواجه صعوبة في الاستعانة بطائرات إطفاء تحت تهديد صواريخ ومسيّرات حزب الله.
جيش الاحتلال يطوّر نموذج قتال جديداً
وفي سياق متّصل، قالت صحيفة معاريف، اليوم، إن جيش الاحتلال الإسرائيلي يطوّر نموذجاً قتالياً في مواجهة حزب الله، ونجح في قتل العشرات من المقاومين في الأيام العشرة الماضية "الأمر الذي دفع حزب الله إلى محاولة التصعيد". وتستغل القيادة الشمالية في جيش الاحتلال ثلاثة عوامل، بحسب الصحيفة، الأول هو أن معظم البلدات تقريباً في جنوب لبنان خالية من المواطنين اللبنانيين، فيما العامل الثاني هو التكنولوجيا المتطوّرة الخاصة بالمُسيّرات الإسرائيلية التي تمكنها من رصد حركة المقاومين الذين يتنقلون بين البلدات الخالية، والعامل الثالث القدرة على توجيه ضربات نارية فورية والدمج بين القوات الجوية والبرية.
ويدرك جيش الاحتلال، وفق الصحيفة، أن حزب الله يحاول خلق استمرارية لإطلاق النار على الشمال من خلال الصواريخ والمسيرات، وأنه حاول في الأشهر الأخيرة إصابة الجيش الإسرائيلي "بالعمى" لإدراكه التفوّق التكنولوجي للقوات الإسرائيلية، وعليه استهدف مواقع مراقبة مزوّدة بالكاميرات وأيضاً مناطيد تجسس في منطقة الجليل. ويعتمد الجيش الإسرائيلي على سلسلة من وسائل المراقبة الجوية، بما في ذلك طائرات مسيّرة متطورة "والتي يمكنها الطيران على ارتفاعات عالية جداً خارج مدى السمع والرؤية لمن هو موجود على الأرض"، كما يراقب مناطق إطلاق الصواريخ والبلدات الخالية من السكان، ولذلك قد يستهدف كل من يوجد فيها، معتبراً أنه مقاوم وليس مواطناً عادياً.
وأشارت معاريف نقلاً عن مصادرها إلى أن الأيام الأخيرة شهدت انخفاضاً في اعتماد حزب الله على إطلاق الصواريخ مقابل اعتماده أكثر على استخدام المسيّرات، التي يمكنه التحكم بها عن بعد دون كشف مشغّليها، ويقول الجيش الإسرائيلي إنه يواصل في غضون ذلك تجهيز قواته من أجل القيام بعملية برية في لبنان في اللحظة التي تصدر فيها الأوامر من المستوى السياسي.