نشرت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، تقريرا، للصحافية، كايتلين غيبسون، تناولت فيه قصة الفتاة مرح ماهر، التي تتعلّم المشي بعيدا عن الوطن كمثال على الشباب الغزيين الذين فقدوا أطرافا في الحرب الهوجاء التي انتُهكت فيها كافة القوانين والمواثيق المرتبطة بحقوق الإنسان.
وبحسب التقرير فإنّه: "منذ اللحظة التي استيقظت فيها، حتى قبل أن تعرف أين هي، أدركت ما فقدته. وهي مُقعدة في سرير المستشفى، استعادت مرح ماهر، البالغة من العمر سبعة عشر عاما، وعيها، بجسدها: شظية مغروسة في كتفها المُحطم، وجرح عميق مُخيط في حلقها، وكدمات وسحجات تُغطي وجهها وجذعها. شعرت بالألم أولا، ثم اختفى تماما تحت فخذيها".
وتابع: "بعد خمسة أيام من الغيبوبة في المستشفى الميداني الإماراتي جنوب غزة، انفتحت عينا مرح، وهرع الأطباء لإحضار والدها من منطقة انتظار قريبة، سألته عن ابنة أختها فقال إنها بخير مع أنها كانت قد قُتلت في نفس القصف. كما لم يكن يريدها أن تعرف أن أمها في غرفة أخرى وإحدى ساقيها محترقة. ثم عادت إلى غيبوبتها".
وأردف: "عندما استيقظت، كانت ابنة عمها بجانبها. سألتها مرح: ماذا حدث؟ لماذا لا أشعر بساقيّ؟؛ قالت ابنة عمها: كان هناك قصف، لكنكِ بخير، ساقيكِ بخير. لم تكن ساقا مرح بخير، وعرفت ذلك، مع أنها لم تستطع رفع رأسها للنظر. فقالت لابنة عمها: أنا مبتورة، دون أي سؤال هذه المرة".
وتابع: "لمدة 45 يوما، لم تستطع مرح الحركة، أو رؤية الخسارة بنفسها. استمرت عائلتها في تقديم تطمينات غامضة، لكنها كانت حريصة على فهم مدى إصابتها. ثم استخدم الطبيب هاتفا لتصوير الجزء السفلي من جسدها، وأمسك الشاشة لتتمكن من الرؤية. قال لها: لا تخافي، لا بأس. حدّقت مرح في صورة فخذيها المُضمّدتين والسرير الفارغ أسفلهما. تتذكر أنها لم تكن خائفة؛ كل ما شعرت به هو الألم".
واسترسل: "غادرت المستشفى أخيرا في حزيران/ يونيو 2024، بعد سبع عمليات جراحية؛ وبقيت والدتها، أمل البار، لتلقّي المزيد من العلاج لإصابة ساقها. انتقلت مرح لخيمة عائلتها في مخيم للاجئين في رفح، حيث كان الطعام شحيحا، والمياه الجارية معدومة، وكان الهجوم البري الإسرائيلي يعني تهديدا مستمرا بضربات صاروخية قاتلة وقصفا بالدبابات".
"التقى عامل ميداني في منظمة "HEAL Palestine" غير الربحية للمساعدات الإنسانية بمرح في مخيم اللاجئين، وبدأ إجراءات طلب الإذن رسميا لإخلائها لتلقي الرعاية الطبية ورعاية الأطراف الاصطناعية. ستحتاج إلى مرافقة والدتها، التي تعافت بحلول آب/ أغسطس بما يكفي للسفر مع ابنتها، وكلاهما يتطلب موافقة من وزارة الدفاع الإسرائيلية للإخلاء" بحسب التقرير.
وأورد: "صدرت الموافقة في نهاية أغسطس: تمكّنت مرح وأمل من مغادرة غزة لتلقي العلاج في الولايات المتحدة. منذ أن أغلقت إسرائيل معبر رفح الحدودي في أيار/ مايو 2024، انخفض عدد الأطفال الذين مُنحوا تصريحا بالإجلاء الطبي من غزة بشكل حاد، من حوالي 300 طفل شهريا إلى 22 طفلا فقط، وفقا لما ذكرته اليونيسف لاحقا".
واسترسل: "قبل عامين تقريبا، كانت مرح طالبة في السادسة عشرة من عمرها، تبدأ عامها الأخير في المدرسة الثانوية. كانت مراهقة سعيدة وتفكر في التخصص بالتصميم الداخلي في الجامعة. حياة لا تشبه على الإطلاق الحياة التي تعيشها الآن، حيث أودت الحرب بحياة أختها، وشقيقها، وبنات إخوتها، وأعمامها، وجديها".
إلى ذلك، تقدّر وزارة الصحة أن أكثر من 16500 طفل قد استشهدوا في غزة، وأصيب عشرات الآلاف، وفقا لليونيسف. وصف مسؤولو الأمم المتحدة غزة بأنها موطن "لأعلى عدد من الأطفال مبتوري الأطراف للفرد في العالم"، وفي حزيران/ يونيو 2024، قدّر المسؤولون أن 10 أطفال يفقدون طرفا واحدا على الأقل كل يوم.
واسترسل: "عندما وصلت طبيبة العناية المركزة للأطفال تانيا الحاج حسن إلى مستشفى شهداء الأقصى الحكومي في آذار/ مارس 2024، أحضرت معها كمية من عصبات التضميد العسكرية. كان عدد إصابات الأطراف هائلا لدرجة أن فريقها استخدم العصبات جميعا بسرعة، وتقول: من المفترض أن تكون للاستخدام مرة واحدة.. وكنا نغسلها ونستخدمها مرارا وتكرارا".
وتابع: "في يوم مشرق وبارد من شهر فبراير، تجلس مرح ووالدتها معا على طاولة المطبخ في منزل متطوعة مجتمعية في منظمة HEAL Palestine ساعدتهما في التعامل مع لوجستيات إقامتهما في نيويورك. تحمل مرح هاتفها، الذي أصبح بمثابة رابط حيوي فريد من نوعه بالحياة التي عرفتها ذات يوم، أرشيف لما كان ولم يعد".
تقوم مرح بتصفح هاتفها: هذه غرفة مفضلة في منزلهم في حي الزيتون الشمالي، إذ عاش والدا مرح هناك بسعادة مع خمسة من أطفالهما الستة؛ كان والدها، ماهر البار، يعمل لساعات طويلة في السوبر ماركت الذي يملكه في مكان قريب، وكانت والدتها تعتني بالعائلة. كانت شقيقة مرح، مرام، البالغة من العمر 26 عاما، وهي طبيبة رعاية أولية، تعيش على مسافة قصيرة سيرا على الأقدام مع زوجها وابنتيهما، منى البالغة من العمر عامين وأمل البالغة من العمر عاما واحدا، والتي سُميت على اسم جدتها.
بعد أسبوع من بداية الحرب، أيقظتهم هواتفهم في ظلام ما قبل الفجر، مُصدرة تحذيرا من جيش الاحتلال الإسرائيلي بأن ضربة صاروخية وشيكة. فرّت العائلة، لا يحملون شيئا سوى أيدي بعضهم البعض، راكضين في الشوارع بينما دوّت الانفجارات خلفهم.
وأبرز التقرير: "وجدوا مأوى لدى جدّي مرح من جهة الأم في حي الزيتون، حيث كانوا في 29 تشرين الأول/ أكتوبر: أسوأ يوم في حياتي؛ كما تقول مرح. في ذلك المساء، كان شمال غزة تحت قصف عنيف. كان زهير، شقيق مرح الأكبر والبالغ من العمر 25 عاما، يزور شقيقته مرام وعائلتها عندما قُصف منزل مرام ودُمر بعد الساعة الثانية ظهرا بقليل".
وُجد زهير مستشهدا على رصيف قريب، يحتضن جثة منى. طارت مرام في الهواء؛ وسقطت جثتها على سطح منزل على بُعد خمسة منازل. دُفن زوجها تحت الأنقاض، وفي البداية، ساد الاعتقاد بأن ابنتهما الصغرى فُقدت هناك أيضا. بعد ثلاثة أيام، بعد أن توجهت مرح وعائلتها جنوبا إلى رفح، علموا أن أمل الصغيرة عُثر عليها حية في فناء أحد الجيران ونُقلت إلى المستشفى، وكُسر وركها.
أعادت التقاط هاتفها، باحثة عن صورة لمرام، وهي تضع ذراعيها حول بناتها. تقول مرح وهي تلمس وجه مرام بإصبعها: "هذه شخصي المفضل في العالم". وتضيف عن الأطفال: "هؤلاء بناتي".
كانت مرام بمثابة أم ثانية لجميع إخوتها، كما تقول مرح، لكن الأخوات كنّ قريبات جدا. كانت مرام وبناتها يأتين إلى منزل والديهن بضع مرات أسبوعيا للمبيت مع أهلها. ويسود الصمت على مرح، وتتلاشى ابتسامتها. تلمس هاتفها، وقد أصبحت الشاشة مظلمة. تقول: "لا أريد أن أتذكر.. لكنني لا أريد أن أنسى".
لا تتذكر مرح إلا لحظة واحدة حية وعابرة من الليلة التي فقدت فيها ساقيها. سقطت القنبلة بعد الساعة الثالثة فجرا بقليل، مدمرة الغرفة التي كانت تنام فيها بجانب ابنة أختها في منزل عمتها في رفح. استيقظت لتجد نفسها محشورة تحت ثلاجة، وإحدى يديها خارج الحطام. صرخت، ثم كان والدها بجانبها يصرخ: "هناك يد هنا".
مرت أشهر قبل أن تسمع مرح ما حدث بعد ذلك: كيف كان والدها هو من انتشلها من تحت الأنقاض؛ وكيف كانت ساق والدتها محترقة بشدة لدرجة أنها انهارت بمجرد أن نهضت على قدميها. بينما كان ماهر يبحث بجنون بين الأنقاض، وجد جثة أمل، البالغة من العمر 18 شهرا. حمل الطفلة إلى زوجته، حتى تتمكن أمل الكبرى من توديعها قبل أن يُسرع بها المسعفون إلى المستشفى.
لمدة أسبوع تقريبا، لم تكن أمل تعلم ما حل بأطفالها الأربعة الناجين. بعد أن أفاقت مرح من غيبوبتها، طلب الأطباء من ماهر أن يأتي إلى جانب زوجته ويتحدث معها.
عندما دخل، تقول أمل: "بدا منهكا". أمسك بيدها، فتماسكت. قالت: "أطفالنا. من رحل؟"، فقال: "جميعهم على قيد الحياة. لكنهم بتروا ساقي مرح".
بدا كل شيء في وصولهم إلى نيويورك سرياليا: المدينة الشاهقة، وجوه الغرباء، والمستشفى البديع والمتطور حيث قضت مرح وأمل أيامهما الأولى. لذلك في الليلة الأولى، بحثت على الإنترنت عن إلهام للرسم. في غرفتها بالمستشفى، فتحت دفترا معها وبدأت برسم شكل سمكة كوي دقيقة.
في عيادة تقويم العظام والأطراف الصناعية في نيويورك في أيلول/ سبتمبر، انزلقت مرح إلى حافة كرسيها المتحرك وأنزلت نفسها ببطء إلى الأرض. وهناك، ولأول مرة منذ إصابتها، وقفت على ما تبقى من ساقيها. وأوضح الأخصائيون أنها ستبدأ من هنا، مع مركز الثقل الجديد هذا.
وبحسب التقرير: "ستتعلم المشي فوق الأرض بقليل، ثم ستُطوَّل الأعمدة المعدنية لساقيها الاصطناعيتين بمقدار بوصة أو بوصتين إضافيتين، وستتعلم المشي مرارا وتكرارا، حتى تتمكن من التحرك في كل مكان بأرجل اصطناعية كاملة، أقرب ما يمكن إلى طولها السابق الذي كان بحدود 170 سم".
بعد تسعة أسابيع، في عيادة العلاج الطبيعي، خطت مرح أولى خطواتها المتعثرة مع الأطراف الاصطناعية الجديدة، ثم واصلت السير عبر الغرفة الكبيرة المفتوحة. راقبت أمل في صمت، والدموع تنهمر من عينيها.
تقول مرح: "أتمنى لو متُّ في غزة بدلا من مغادرتها". سمعت المعالجة النفسية للأطفال كاترين بروباك العديد من الأطفال والمراهقين في غزة يقولون أشياء كهذه.