مرت كثير من الدول والمجتمعات العربية، بتجربة من تجارب «الحوار الوطني» خلال الأشهر القليلة الفائتة...بعض النظم العربية «لم يلحق» نتائج الحوار، غادر المسرح السياسي قبل أن يلتئم شمل الحوار والمتحاورين (مصر وتونس)...بعضها وصل للحوار متأخراً، أو بعد خراب البصرة «البحرين وسوريا»...وبعضها الثالث، أنهى الحوار وعاد المتحاورون إلى مزاولة يومياتهم (الأردن)...في جميع التجارب ومختلف الحالات والمحاولات، كان الحوار «مخرجاً» من استعصاء، وأداة لـ»الاحتواء» بدل أن يكون رافعة للتغيير وقناة لبناء التوافق. في مصر كلّف الرئيس المخلوع – قبل أني يُخلع بأيام قلائل – نائبه المُسمى على عجل، لإدارة حوار مع «المصريين»...لأول مرة منذ سنوات وعقود، دخل الإخوان المسلمون وبعض المعارضين الحقيقيين، قاعات القصر الجمهوري من بواباتها، بعد أن طال بهم المقام في أقبية السجون وزنازينها...وقبل صدور التكليف الرسمي بإدارة الحوار، كانت «لجنة الحكماء» تسعى في ترتيب مائدة حوار غير رسمي...ذهب الحكماء وتبددت الحكمة بعد أن تكشفت عن ميل أصيل لعقد الصفقات والتسويات، بل وللتساوق مع السلطة وأهدافها...انتصر ميدان التحرير، واكتسب «ربيع العرب» اسمه منذ تلك اللحظة، وهو الاسم الذي يجهد شبّان الثورة في غير عاصمة عربية للحفاظ عليه، بعد أن بلغت «الثورة المضادة» شأواً عظيماً. في البحرين، بدأت أمس أولى جلسات الحوار الوطني...وسط أنباء تتحدث عن «صفقة ما» بين حزب الأغلبية الشيعية (الوفاق) والنظام، وفي ظل مقاطعة أوساط عدة منها كذلك...الحوار من وجهة نظر السلطة، يسعى في تحقيق أمرين اثنين: (1) تفادي ضعوط الخارج وإحراجاته...(2) والبناء على الهزيمة التي ألحقت بالحركة الشعبية البحرينية على يد «درع الجزيرة» وتدخل «المعتدلين العرب»...الحوار هنا أيضا له وظائف إحتوائية لا تغييرية أو إصلاحية، هدفه الالتفاف على المطالب الأعمق والأوسع والأبعد لجموع المواطنين وغالبية الناس، ودائما تحت غطاء الإجماع والتوافق. في سوريا، وبعد أكثر من «مائة يوم هزّت النظام»...تتجه السلطة إلى حوار مع المعارضة...والعارفون ببواطن الأمور يبدون فرحين باكتشافهم بإن رقاع الدعوة وجهت للمعارضة بوصفها «معارضة» لا بصفاتهم الشخصية أو الوطنية، ما عُدّ من قبل هؤلاء على أنه تطور في موقف السلطة واتجاه للاعتراف بالمعارضة...أما مؤتمر المعارضة في «سمير أميس» الذي رحبنا به، فقد نظر آخرون إليه وإلى المشاركين فيه، بوصفهم متواطئين مع السلطة وضالعين في مشروعها «الاحتوائي»، وثمة من ذهب أبعد من ذلك في توصيف هؤلاء المناضلين واتهامهم. أما عندنا في الأردن، فقد بدأ الحوار مبكراً وانتهى مبكراً كذلك...المتحاورون الذي عادوا إلى «يومياتهم» كالمعتاد، لا يمكن أن يدعي أي منهم أو من غيرهم، بأنهم يمثلون الأردن والأردنيين، هم شريحة من المواطنين بلا شك، بعضهم ذو صفة تمثيلية وكثيرون منهم فاقدون لها...أما نتائج أعمالهم، فهي من «التدني» بحيث لا تصلح حتى لـ»الاحتواء»، بما بالكم حين يتعلق الأمر بإحداث الاختراق على طريق الإصلاح والتغيير...بدلالة أن مطالب الإصلاحيين والتغيريين في مجتعنا، لم تتغير ولم تتبدل. باستثناء البحرين، حيث الحكومة تتربع على رأس البلاد والعباد منذ أكثر من أربعة عقود متصلة، وحيث الشعب البحريني لم يعرف أكثر من رئيس وزراء واحد، منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا...أقول باستثناء البحرين، تزامنت دعوات الحوار مع تشكيل حكومات جديدة وترحيل حكومات قديمة...في مصر طارت واحدة وجيئ بأخرى...وكذا الحال في سوريا...أما عندنا في الأردن فقد غادرتنا حكومة وجاءت أخرى، وظل مطلب الشارع على حاله: الشعب يريد إسقاط الحكومة وحل البرلمان...آخر تعديل وزير وزاري، خرج بموجبه بعض الوزراء وبقيت غالبيتهم، لكأن الشعب الأردني الذي يخرج كل جمعة للتظاهر والاحتجاج، كانت له مشكلة مستعصية من الوزراء الذين «غادروا سفينة الحكومة»...مع أن الهتافات واليافطات الشعبية وحتى الاحتجاجات النيابية، كانت انصبت على رئيس الحكومة، لا على بعض وزرائه فقط، وأصدقكم القول، أننا نكاد لا نعرف أسماء العديد من أعضاء مجلس الوزراء، سواء من الذين خرجوا أو الذين بقيوا في مواقعهم (وما بدّلوا تبديلا). الحوار مطلوب، ومن دونه تبدو المواجهة سيدة الأحكام، ويصبح العنف تعبيرا عن «القطع» و»القطيعة» بين مختلف مكونات المجتمع وكياناته...لكنه الحوار المؤسسي، الممثل لكل الأطياف والتلاوين، وبنزاهة وعدالة، لا الحوار المُعدّة نتائجه سلفاً...الحوار الذي يبنى توافقاً ولا يسعى في إسقاط رأي الحكم والحكومة على الجميع...الحوار الذي يشق طريق الإصلاح والتغيير، لا الحوار الذي لا وظيفة له غير الاحتواء، وتقطيع السبل على مطالب الإصلاح والتغيير الحقيقية. معزوفة الحوار الوطني المُملة، التي يتكرر بثها بمختلف اللهجات العربية، لم تعد تطرب أحداً أو تمتّعه...باتت سقيمة ومملة، وتعبر عن إنسداد الآفاق لا انفتاحها...عن الاحتواء الهادف تأبيد الأمر الواقع، بدل المشاركة الساعية في التغيير...وربما لهذا السبب بالذات، يشعر كثيرون منا بالقلق كلما أكثر حكامنا من الحديث عن «الحوار» و»التوافق» و»الإصلاح».
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.