15.57°القدس
15.47°رام الله
14.42°الخليل
22.32°غزة
15.57° القدس
رام الله15.47°
الخليل14.42°
غزة22.32°
الإثنين 14 أكتوبر 2024
4.91جنيه إسترليني
5.31دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.12يورو
3.76دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.91
دينار أردني5.31
جنيه مصري0.08
يورو4.12
دولار أمريكي3.76

خبر: مفهوم الابتلاء وأخطاؤنا البشرية..

الابتلاء هو الاختبار، وكما يعرفه المفكر خالص جلبي فهو يعني إدخال الفكرة إلى مختبر الممارسة العملية، فالذي يدعي أنه لا يخاف من الموت مثلاً ابتلاؤه في تعرضه لخطر الموت ليرى صدق ادعائه من كذبه، وهكذا فإن لكل دعوى ابتلاءً من جنسها: "أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون"، بهذا المفهوم فإن الابتلاء شرط ضروري لنجاح العمل، فهو يأتي في سياق إيجابي للتأكد من صدق الدعاوى، ولولا الابتلاء لكثر الزيف والخبث ولسهل على أي أحد أي ادعاء.. الابتلاء ليس عاملاً خارجياً بل هو من جنس الدعوى، وهو ليس تبريراً للفشل واستسلاماً له بحجة الابتلاء، فهذا خلط خطير بين الإلهي والبشري يؤدي بنا إلى أن نبرر إخفاقاتنا بإرادة الله بدل أن نراجع أنفسنا ونحاسبها!! الابتلاء لا يحتم علينا البقاء في حياة الفقر أو المرض أو السجن، لأن أي حالة نكون فيها من فقر أو غنى، عافية أو مرض، سجن أو حرية، فهي ابتلاء، الابتلاء لا يقتصر على جانب الشر وحده بل إن الخير أيضاً ابتلاء: " ونبلوكم بالشر والخير فتنة"، ومثل سليمان عليه السلام في القرآن يوضح لنا اتساع مفهوم الابتلاء، فبعد أن آتاه الله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده اعتبره ابتلاءً قال: " ليبلوني أأشكر أم أكفر". اتساع مفهوم الابتلاء وتنوع صوره يحرره من الارتباط بالجبرية التي تعيق العمل وترهن أصحابها في حالة لازمة من الفقر والجهل والفشل، فإذا كان الابتلاء ملازماً للمرء في جميع أحواله حتى لو ملك الدنيا كلها فإلى أي أساس يستند الفاشل في زعمه بأن ابتلاء الله هو سبب فشله!! أصيب المسلمون في غزوة أحد ورسول الله بين ظهرانيهم فلم يقل لهم القرآن إنه ابتلاء- رغم أنه كان ابتلاءً بالتأكيد في أحد وجوهه- بل قال لهم: " قل هو من عند أنفسكم" فالجانب المتعلق بنا نحن البشر هو البحث عن أخطائنا وتصويبها، أما الابتلاء والأجر فهو متعلق بعمل الله عز وجل يدبره بحكمته دون أن يفرض علينا مساراً جبرياً في الحياة. الحالة النموذجية للابتلاء لا تكون في بقاء الإنسان على حالة واحدة من السجن أو الفقر أو المرض، لأن البقاء على حالة واحدة يجعل صاحبها يألفها ويتعامل معها بأنها أحد مكونات حياته فيتوقف إيمانه عن التجدد ولا يظل هذا الابتلاء صالحاً لقياس مستواه الإيماني... مثال ذلك أن يظل الإنسان سجيناً طول عمره فهو في أول عهده بالسجون سيكون حياً في تفاعله مع هذا الابتلاء وسيزكي السجن نفسه لكن طول إلفه بالسجن ربما يميت هذا التفاعل في قلبه فلا يعود السجن مثيراً للرصيد الإيماني الكامن في نفسه وستتحول معايشته للسجن إلى تقليد جامد فتموت من قلبه معاني الصبر ومجاهدة النفس، لقد حدثني أحد السجناء أن مفهوم الشهوة في السجن هو أن ينظر السجين إلى صورة مذيعة الأخبار في التلفزيون!! الشاهد هو أن الإنسان الذي يطول إلفه مع المعاناة يتعايش معها ويمارس اختياراته في الحدود التي تتيحها له ظروف الحياة الجديدة ولا يظل في حيويته الإيمانية، فحقيقة جدلية الإنسان هو التذبذب الدائم مما يجعل الحاجة ملحةً دائماً لابتلاء من نوع جديد، وما ينطبق على السجن ينطبق على كل أصناف الابتلاءات الأخرى فالفقير يتعايش مع فقره والمريض يتعايش مع مرضه والمقاتل يتعايش مع أجواء الحروب والدماء إذا طال عهدهم بها: "طال عليهم الأمد فقست قلوبهم" فلا تعود الظروف المعيشية القاسية مقياساً للحالة الإيمانية لصاحبها لأن الإيمان يتحقق بالاختيار الحر وليس بالتعود الإجباري.. يضرب لنا القرآن مثل يوسف عليه السلام في الابتلاء، فحياته تنوعت بين صنوف الابتلاء المختلفة من إلقائه في الجب إلى فتنة امرأة العزيز إلى فتنة اتهامه زوراً ثم فتنة دخول السجن ثم فتنة الملك المختلفة تماماً عما سبقها، ومع كل ابتلاء جديد كانت هناك استجابة متجددة، وبذلك يظل الإيمان في حالة تجدد لا يجمد في حالة واحدة... الابتلاء يعني أن يستجيب البشر استجابةً حيةً مبدعةً لظروفهم المستجدة، أما الفشل فيعني أن هناك خللاً بشرياً يتطلب المراجعة والتصويب. إن أحدنا لم يطلع على الغيب حتى يزعم بأن الله لم يكتب له النجاح فيتوقف عن المراجعة والسعي، وإذا كنا نقول إن الفشل كان بتقدير الله فإننا حين نراجع الأسباب ونعيد المحاولة وننجح فسيكون ذلك بتقدير الله فنحن نفر من قدر الله إلى قدر الله وما دام النجاح والفشل والعافية والمرض والغنى والفقر كلها أقدار إلهية فهذا يلغي اعتذارنا بقدر الله عن أي نتيجة تصيبنا لأن نقيضها هو قدر الله أيضاً فلا بد من إطلاق الجهد الإنساني وتصويب المسار في ضوء الأسباب البشرية.