في صبيحة كل عيد تستيقظ الحاجة لطيفة أبو حميد وتغسل وجهها بماء الصبر وتلبس ثوبها الفلسطيني المطرز وتحدق في صور أبنائها المعلقة على جدران منزلها وترسل لهم تهنئتها الخاصة بالعيد وتسأل الله أن يُهلّ عليها العيد القادم وقد عانقت أحدا أبنائها الأربعة الذين غيبهم الاحتلال في سجونه، ودون أن تنسى الترحم على روح ولدها الشهيد. معاناة عائلة محمد يوسف أبو حميد من مخيم الأمعري برام الله، وحكاية خمسة من أبنائها، 4 منهم يقضون أحكاما بالسجن المؤبدة (ناصر ونصر وشريف ومحمد)، في حين استشهد خامسهم (عبد المنعم) قبل حوالي 20 عاما. عام 1935 ولد رب الأسرة في قرية أبو شوشة قضاء الرملة، وفي عام 1948 هُجّر منها إلى مخيم النصيرات في قطاع غزة، وفي عام 1967 وعلى وقع هزيمة حزيران انتقل للعيش في الضفة الغربية بعد أن تزوج وأنجب ثلاثة أطفال، ليستقر به المقام في مخيم الأمعري للاجئين وسط مدينة رام الله. عمل أبو حميد في تجارة المواد الغذائية ليعيل أسرته المكونه من 10 ذكور وابنتين، وفي العام 2002 أصيب بإعاقة حركية وفقد بصره إثر تفجير الاحتلال لمنزله للمرة الثانية بسبب نشاط أبناءه في مقاومة الاحتلال، بعد أن هدمه للمرة الأولى عام 1994. [title]عبد المنعم صائد الشاباك[/title] بقلب يعج بالشوق والذكريات تروي الحاجة لطيفة أبو حميد (65 عاما) قصة معاناتها، فتقول: "خلال 35 عاما لم تخلُ سجون الاحتلال من أبنائي.. في عام 1994 ضمت السجون أربعة منهم في آن واحد، ولم يقف مكر الاحتلال عند هذا الحد بل سعت مخابراته لضرب التاريخ النضالي لأبنائي وتشويه صورتنا من خلال محاولة زرع جاسوس بيننا، ولكن كان لهم عكس ما يشتهون". وتكمل سرد قصتها: "في شهر رمضان من العام ذاته، اقتحم الاحتلال منزلنا وأخرجونا نحن والجيران في البرد القارص، وفتشوا البيت بحثا عن ابني عبد المنعم الذي كان مطلوبا في تلك الفترة، وعند انصرافهم سلمونا تبليغا لمراجعة مخابراتهم". وتتابع: "في اليوم التالي ذهب عبد المنعم لمقابلة المخابرات ومن هناك تم اعتقاله وتحويله إلى مراكز التحقيق، وخلال فترة اعتقاله عرضت المخابرات على عبد المنعم العمل معهم مقابل إطلاق سراح إخوته الأربعة فوافق على ذلك ظاهريا، وتم الاتفاق بينه وبين الضباط على آلية لاغتيال مطلوبين من كتائب القسام في مدينة رام الله، وبعد 21 يوما أفرجوا عن عبد المنعم لتنفيذ المهمة". وتضيف: "تفاجئنا بإطلاق سراح عبد المنعم خاصة بعد التهم الكثيرة التي كانت موجهة إليه وفترة المطاردة التي عاشها، فسارعت بسؤاله عن سبب الإفراج عنه بعد هذه الفترة القصيرة، فأجابني: انه استطاع خداع المحققين، عندها تيقنت أن في الأمر لغزا محّيرا". ظلت الحاجة لطيفة أبو حميد في صراع طويل مع نفسها واضعة فلذة كبدها في دائرة الشك حتى جاءت ساعة الحسم، حين أُعلن عن قتل أحد ضباط المخابرات الإسرائيلية الذي يدعى "نوعم كوهين" بعد إطلاق النار عليه في بلدة بيتونيا قرب رام الله، في عملية نفذها عناصر من كتاب القسام كان يتقدمهم ابنها عبد المنعم بتنسيق مع عناصر المجموعة. بعد العملية أصبح عبد المنعم المطلوب الأول لمخابرات الاحتلال بعد أن أصبح يلقب "بصائد الشاباك"، لتبدأ رحلة من المطاردة لعدة أشهر، وكانت النهاية حين تمكن الاحتلال من رصده بعد عودته من المسجد الأقصى وملاحقته من القوات الخاصة وتمت تصفيته في بلدة الرام بتاريخ 31/5/1994 بعد أن أطلق عليه المستعربون (150 رصاصة) مزقت جسده". [title]ناصر .. الأسد المقنع[/title] وعلى وقع أهازيج الانتفاضة الأولى انطلق الشبان والفتية في كل بقعة من الأرض الفلسطينية يتصدون لجنود الاحتلال ودورياته، وكان مخيم الأمعري الجمرة التي أشعلت لهيب الانتفاضة في مدينة رام الله. وتنتقل الحاجة لطيفة للحديث عن بقية أبنائها الأسرى فتقول: "شارك ابني ناصر في فعاليات الانتفاضة وبسبب ذلك اعتقل سبع مرات كان أولها وهو طفل لم يتجاوز الـ13 عاما". ولم تكن والدته على علم بفتاها الصغير الذي كان يقود عشرات الملثمين في أيام التصعيد ضد الاحتلال، إلا بعد سماعها أنشودة "ناصر يا أبو حميد ... يا أسد مقنع" التي ملأت بصداها شوارع وحارات الضفة الغربية. وتشير والدته إلى أن ناصر (42 عاما) قضى قرابة 27 عاما في سجون الاحتلال، وكان في بداية الانتفاضة الأولى قد حكم بالمؤبد بـ (4 مرات) وأطلق سراحه عقب اتفاق أسلو، ثم توالت الاعتقالات بحقه إلى أن تم اعتقاله برفقة شقيقه نصر بتاريخ 21/4/2002 حين حاصر الاحتلال المنزل الذي كانا يتحصنان بداخله في بلدة كفر عقب جنوب رام الله. ومن لحظتها لا يزال ناصر ونصر رهن الاعتقال بعد أن أصدرت محكمة عوفر العسكرية حكما بحق الأول لمدة (7 مؤبدات) و(50 عاما)، بتهمة تأسيس كتائب شهداء الأقصى وتنفيذ سلسلة من العمليات ضد الاحتلال وجنوده، في حين حُكم نصر لمدة (5 مؤبدات). [title]مؤبدات بالجملة[/title] وتجاهد الحاجة أبو حميد وتحاول إحصاء أعداد المؤبدات وتواريخ اعتقال بقية أبنائها، فتقول: "انا بحاجة إلى كمبيوتر لحساب السنوات التي يقضيها أبنائي في السجون، ولا أدري كم سأعيش من هذه السنوات التي تمر علي بالألوان". وعن ابنها شريف (31 عاما) اوصحت أنه اعتقل بتاريخ 12/4/2002 عندما استهدف الاحتلال مقر جهاز الأمن الوقائي في بيتونيا حيث كان يعمل عنصرا في الأجهزة الأمنية، وكان حينها مطلوبا لقوات الاحتلال. وتنوه إلى أن شريف اعتقل لمدة (9 أعوام) في اعتقالات سابقة كان أولها حين كان عمره (15 عاما)، على خلفية التخطيط والمشاركة في عمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي. وعندما لهج لسانها بذكر اسم ابنها محمد (30 عاما) الأصغر بين أخوته خفت صوتها في إشارة لكونه الابن المدلل، وتقول: "عام 2002 اعتقل محمد وعمره (18 عاما) حيث كان مطاردا لعدة شهور بعد أن نصب له الاحتلال كمينا بالقرب من أحد المحال التجارية في رام الله، حيث كان يعمل في محل لبيع الدواجن ليحكم بالمؤبد مرتين و30 عاما". [title]أمنية غريبة[/title] وتتمنى الحاجة لطيفة أن يجمع شتاتها بأولادها خارج السجن وان تعذر ذلك فلا مانع لديها أن تُعتقل معهم، وتقول: "إذا كان الاحتلال ينظر إلى أولادي على أنهم مخربين، فليعتبرنني المخرب الخامس ويحبسوني معهم"، وتضيف: "قبل عامين كنت أطوف جميع السجون لزيارة أبنائي كل في سجنه، بينما اليوم فإني أزورهم جميعهم كل أسبوعين في سجن عسقلان، ولا يسمح لأحد من الأسرة بزيارتهم بدواع الرفض الأمني". لا عيد في بيتي وكغيره من الأيام تقضي الحاجة أبو حميد عيدها داخل بيتها الذي لا تملكه وبجوار منزلها الذي هدمه الاحتلال ولم يجد من يعيد بنائه حتى اليوم، وتقول: "في كل عيد أمسح الغبار عن صور أبنائي المعلقة على جدران المنزل لعلها تذكر الزائرين بأن لأبي حميد أبناء في السجون وأن المنزل الذي نسكن فيه ليس ملكنا وأن منزلنا لا زال ركاما على حاله".
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.