جمعتني دراسةُ دُكتوراه عن واقع المؤسسات الأهلية ومدى مساهمتها في تنمية وتطوير المجتمع بنخبة من العاملين في المؤسسات الأهلية الذين استعرضوا الدور التاريخي لتلك المؤسسات الأهلية، حين كانت عبارة عن لجانٍ شعبية طوّرت نفسها إبان فترة احتلال قطاع غزة لتقف وبجهود طوعية ورسالة إنسانية بحتة في وجه الغطرسة الصهيونية، ورفد الناس بمقومات الصمود وتثبيتهم على أرضهم، وكم كنتُ استمتع حين يروي لي المخضرمين في العمل الأهلي والمؤسساتي عن روح التطوع والتعاون والتكاتف ما بين القائمين على تلك المؤسسات واللجان وما بين الأهالي والمواطنين، فالرسالة إنسانية والعمل يؤدى بمهنية وفق أعلى معايير درجات الشفافية والقائمين على الأمر من المتعففين من ذوي الوظائف الأخرى زاد لهم فضل من وقت فصرفوه في حاجة الناس. ثم أتت اتفاقيات أوسلو وبدأ مسلسل تحجيم واحتواء دور المؤسسات الأهلية، وتقريبها من السلطة والحزب الحاكم وتفريغ أعضاء الأجهزة الأمنية في رئاسة مجالسها أو عضوية طاقمها التنفيذي، متتبعين عورات وثغرات تلك المؤسسات بغرض إرضاخها ابتزازاً في حال استعصت طواعية. وبدأ مسلسل انحدار العديد من المؤسسات الأهلية وبرامجها من مؤسسات خدمية وطنية تساهم في دور فعال في سد الثغرات والعجز، إلى مؤسسات تتسلق التقرب من الحزب الحاكم طمعاً في مكرمة رئاسية أو تفريغاً على الأجهزة الأمنية. لم يتوقف التدهور الحاصل في القيم الأخلاقية والنزاهة ومعايير الشفافية عند تلك الفترة بل ازدادت سوءاً عقب انتخابات العام 2006 والتي نتج عنها فوز حركة المقاومة الإسلامية حماس، حيث سارعت عدد من الفصائل بافتتاح عدد من المؤسسات الأهلية ليبلغ عددها أكثر من 1200 مؤسسة أهلية خيرية بقطاع غزة لأغراض مختلفة . حسب آخر إحصائية صدرت على لسان السيد ثروت البيك مدير عام الجمعيات الأهلية بقطاع غزة فإن تعداد الجمعيات الأهلية بلغ 850 مؤسسة أهلية خدمية مرخصة لدى وزارة الداخلية والوزارات المختصة، ناهيك طبعاً عن عدد من الشركات غير الربحية والمراكز غير الربحية والتي يمكن ترخيصها لدى وزارة الاقتصاد أو وزارة الإعلام دون الحاجة للرجوع لوزارة الداخلية. يُسجل لوزارة الداخلية بغزة أنها بدأت بتقنين عدد المؤسسات الأهلية وتقليص أعدادها والتي غالباً هي نُسخ متطابقة لا تؤدي عملاً خدمياً حقيقاً ودون حتى قدرة تشغيلية، ويُسجل عليها أن اللون الحزبي يتدخل أحياناً في إجراءات التسجيل وإصدار التراخيص وكما كانت هُنالك إفادة بالسلامة الأمنية في عصر قد خلى . 850 مؤسسة أهلية في قطاع غزة، والفاعل منها لا يتجاوز 150 مؤسسة، منهم فقط ما يقارب 70 مؤسسة لها قدرة تشغيلية وموازنات حقيقة ونظام إداري وهيكل وظيفي ومالي، والباقي تكملة عددية يتطفلون ويتوسلون طرداً غذائياً وكيس دقيق وبعض الكيلو جرامات من اللحم في الأنشطة الموسمية بغرض توزيعها على المحتاجين، الذين هم في الواقع ينتظرون من تلك المؤسسات التي شُكلت لخدمتهم كما تقول رسالة مؤسسيها أكثر مما يصلهم. والطريف في الأمر قيام نفس الأشخاص بتشكيل عدد من الجمعيات الأهلية بشكل متكرر بأسماء شكلية، وأثناء جولتي الدولية الحالية قامت إحدى المؤسسات المانحة بعرض ثلاث مقترحات مقدمة من ثلاث جهات تحمل اسم المشروع ونفس المضمون، وما لم تكن تعلمه الجهة المانحة أن المرسلين الثلاثة هم نفس الشخص القائم على المؤسسات الثلاث، فعن أي مصداقية يتم الحديث هنا وعن أي أهمية لثلاث مؤسسات تقوم بنفس الدور وتقوم عليها نفس الإدارة. والمثير أن تلك المؤسسات – التكملة العددية – تنشغل طوال العام في تعديل وتغيير أهداف نشأتها لمناسبة عمليات التسول المنوي القيام بها في زيارتهم للمؤسسات المانحة أو المؤسسات المحلية الكبرى التي استأثرت بنصيب الأسد في مجال تقديم المساعدات والخدمات لتتحول تلك المؤسسات الصغيرة بقدراتها المعدومة إلى تابع أو ظل للمؤسسات الكبرى حين الحاجة. قامت الحكومة الفلسطينية بغزة وحسب تصريح رئيس الوزراء إسماعيل هنية بتوظيف أكثر من 41 ألف موظف أثناء الفترة التي أعقبت أحداث يونيو حزيران من العام 2007، ويبلغ تعداد الموظفين الذين يتقاضون رواتبهم من السلطة في رام الله أكثر من 100 ألف موظف، وهم بالتالي خارج دائرة استهداف المؤسسات الأهلية باستثناء بعض الجمعيات العاملة في مجال تنمية الموارد البشرية والجوانب الثقافية والفنية، ناهيك عن استثناء موظفي القطاع الخاص والعاملين في نفس المؤسسات الأهلية ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين. عملية حسابية بسيطة تُظهر أن كل مؤسسة محلية يُفترض أن تقوم بخدمة أقل من1000 شخص من أهالي قطاع غزة، إلا أن الواقع في غزة يُظهر وجود نسبة بطالة تقترب من حاجز الـ 45 % حسب تقرير لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين صدر بمناسبة الذكرى السنوية الخامسة لحصار غزة، ناهيك عن حجم الفقر وارتفاعه في القطاع. كما يُلاحظ عجز هذه المؤسسات عن تقديم أي من الخدمات الصحية المجانية والتي تتقاضي مراكزها الصحية قيمة كشفية المريض وتقوم ببيع بعض الأدوية التي وصلت لغزة كتبرعات من جهات دولية وعربية بغرض تأمين النفقات التشغيلية على حساب المريض الفقير. ولم يطرأ تحسن ملموس على أساليب معالجة الفقر أو أي من الإشكاليات المجتمعية أو الاجتماعية التي يمر بها قطاع غزة، وحتى في قطاع التنمية البشرية ورغم ضخ الأموال على برامج حقوق الإنسان والجندر وتنمية القدرات الذهنية وتطوير مهارات الخريجين، لم يحدث أي تقدم ملموس في الآليات والأساليب المتبعة، حتى تكاد البرامج تكون ممجوجة ومكررة وعبارة عن تجارة رابحة ما بين المؤسسات والمدربين الذين يتقاسمون توزيع الموازنات التدريبية بنسب متفق عليها مسبقاً فيما بينهم. مع كل الأسف تحولت الجمعيات الأهلية من الخيرية والعمل الإنساني للربحية والتنافسية سواء عبر سياسات المانحين التي تُشجع في الغالب على سَلك دروب التحايل ويعنيها الأوراق السليمة دون وجود مخرجات حقيقية، أو عبر تحوّل هذه المؤسسات والموظفين فيها عبء على من أسسها، وبات استقرار المؤسسة والحفاظ على موظفيها وموازناتهم التشغيلية يحتل الأولوية عن تقديم الخدمات للمحتاجين وتحقيق أهداف المؤسسة. ويحق للمواطن العادي أن يتساءل في ظل هذا العدد الكبير من الجمعيات والمؤسسات الأهلية التي تدعي أنها قائمة على خدمته وتسهر على تحقيق أهدافه وتُساهم في رفعة شأن الوطن والمواطن ماذا قدمت تلك المؤسسات في سبيل تحقيق التنمية وفي سبيل تحقيق النهوض؟، إن ما يراه المواطن من هذه المؤسسات – باستثناء البعض منها – الرواتب العالية للمدراء والموظفين من الدرجة الأولى، وأسطول السيارات الخاص بكل مؤسسة، وبعض من الرذاذ في العيون من كوبونات وطرود وبعض البرامج التدريبية التي تُستثمر في توفير موازنات للمؤسسات تحت بند " الوفر المالي" من الموازنات المستقطعة من مكافآت المدربين أو الموظفين. كما يحق لهذا المواطن أن يتساءل عن منطلقات إعداد مقترحات المشاريع من قبل منسقي ومدراء المشاريع حيث يعمد هؤلاء إلى كتابة مقترحات تُجيب عن سؤال واحد ماذا ستستفيد المؤسسة من هذا المشروع وما هي العائدات المالية المتوقع توفيرها لصالح خزينة المؤسسة، فهذا معيار النجاح لديهم وما ينالون عليه المكافآت والأوسمة في مؤسساتهم. كما يحق لهذا المواطن سؤال المؤسسات التي تُراسل الخارج باسمه وتجمع الأموال نيابة عنه، على أي أساس تُحدد أولوياتها وتُخاطب المانحين؟ فلم يقدم أحد على سؤال المواطن عن حاجته ولم تُجرى دراسة ميدانية لأي من المشاريع المُنفذة اللهم العدد القليل، وإني لأعجب أن يكون احتياج المواطن سيارة إدارية لتنقل المواطنين، أو بعض مشاريع حين نفذتها بعض المؤسسات الأخرى كان مخرجها على أرض الواقع صفر. لا يجب أن يقف دور وزارة الداخلية والوزارات المعنية عند الرقابة المالية والمتابعة الإدارية الموسمية – التي هي في الغالب تهتم بالأوراق الثبوتية أكثر من اهتمامها بالنتائج العملية – مع أن الوزارة يُسجل لها ضبط العديد من المخالفات المالية والإدارية في العديد من الجمعيات الأهلية. هنالك حاجة لأن تقوم الحكومة بغزة وبمساعدة المؤسسات الأهلية العريقة والتي تُقدم الخدمة على أُسس النزاهة والشفافية بدراسة احتياج البلاد لهذه المؤسسات الرقمية ووضع خطط تُراعي احتياجات المواطن وتُساهم في الارتقاء بالوطن وتحسين المستوى المعيشي للمواطنين ومن ثم يُصار إلى تحديد مجالات عمل المؤسسات وفرض التخصصية عليها وإغلاق بعضها بما يتناسب مع المقام والمقال، وأتوقع أن المواطن البسيط يُفضل 70 مؤسسة أهلية محترمة تكون عنوانه بدل أن تضيع دماء احتياجاته مفرقة بين قبائل المؤسسات. وعلى الحكومة والمؤسسات الأهلية وبشكل مشترك وضع خطة تنموية ومجتمعية واضحة ومتفق عليها بين الأطراف المختلفة المؤثرة تُعيد للمؤسسات الأهلية دورها المتقدم في خدمة المجتمع الفلسطيني شرط أن تجمع ما بين الاستجابة للاحتياجات والأولويات الآنية وما بين نظرة ورؤية تنموية متوسطة وبعيدة المدى. وعلى الحكومة والمؤسسات معالجة ضعف التنسيق المنظم بينهم والذي يولد حالة من تراجع الدور واستفادة بعض المنتفعين من حالة التشرذم في إيجاد مواطيء قدم لهم عند المانحين. وعلينا كمؤسسات أن نوحد الخطاب الخارجي ونسد المنافذ على المتاجرين بمعاناة الناس الذين حولوا فلسطين وقضيتها لقضية متسولين بعيداً عن تحقيق الأهداف السياسية للشعب الفلسطيني، حيث كنت ألمس في بعض عيون القائمين على المؤسسات الدولية نظرات الاستعلاء واحتقار دور المؤسسات الأهلية المحلية نتيجة ممارسات خاطئة من بعض تُجار تلك المؤسسات التي تسببت في إحداث شرخ كبير في الثقة بين المؤسسات الدولية والمحلية التي باتت تجنح لتنفيذ مشاريعها بنفسها تحت ذريعة عدم شفافية المؤسسات وغياب عامل الثقة. المؤسسات الأهلية المهنية التي ما زالت تُحافظ على رسالتها والحكومة بغزة يحتاجون إلى تشكيل إطار تنظيمي شفاف ومُسائل، لتنسيق المساعدات الطارئة وضمان استمرارها وتجنيد مصادر أخرى لمساعدة الشعب الفلسطيني، وتحويل أنظار المانحين في اتجاه الأعمال التنموية، ومن المستغرب أن تصدر دعوات من المؤسسات الأهلية تُطالب بإنهاء الانقسام وهى نفسها منقسمة في أمر إنساني أبسط بكثير من تعقيدات السياسة وما يحمل السياسيون، هذا في حال كان الأصل في النشأة تقديم الخدمات الإنسانية. على المؤسسات الأهلية أن تُدرك أن التنظيم المهني والعمل المشترك الشفاف رافعة لهم ولبلادهم وأن الاستئثار والتفرد مدعاة للاحتقار والنفور مهما تباينت الأسباب وأُجدت الأعذار. وعلى المواطن أن يكف عن السلبية التي يحياها فلا معنى لصمته سوى أنه يوافق الجاري ولا يدفع للتغيير وكل منا في موقعه يستطيع فعل الكثير.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.