مضى الذين شغاف القلب يعشقهم ، رحل القادة عنا قبل الجند نحو المنون سباقا إلى مولانا، وما تزال كلمات ألسنتهم التي كتبوها بمداد دمائهم، حاضرة في أذهاننا ، تتجسد على أمام ناظرينا في واقعنا الذي نحياه بعد رحيلهم بزمن. "أملي أن يرضى الله عني"، حفظها ورددها الصغير قبل الكبير عن قائلها الشيخ المؤسس أحمد الياسين، الذي قالها بصدق وعمل لها حتى نال الشهادة التي سعى لها سعيها فجر الاثنين قبل عشرة أعوام. كان الشيخ الشهيد، رأسا بلا جسد، قعيد يعاني شللا رباعيا، لا يبصر بعين والأخرى ضعيفة، فهو قلب ولسان فقط. [title]الشيخ القعيد [/title]قال عن نفسه وهو العالم بها :أنا شيخ عجوز لا أرفع قلما ولا سلاحا بيديّ الميتتين!! لستُ خطيبا جهورياً أرجّ المكان بصوتي!! ولا أتحرك صوب حاجة خاصة أو عامة إلا عندما يحركني الآخرون لها!! أنا ذو الشيبة البيضاء والعمر الأخير!! أنا من هدّته الأمراض وعصفت به ابتلاءات الزمان!!. رغم "جسده الذي أتبعته الأسقام" لم يركن الشيخ إلى فراش الراحة ، لقد أتعب من بعده في همته وتضحيته، وهو المعذور لا حرج عليه، آثر الأخذ بالعزائم وترك الرخص الشرعية، أحيا بحياته وبشهادته أمة. لم تغب فلسطين عن خطبه وكلماته، أعطاها شبابه ومنحها حياته، مضى بطريق واضح المعالم قال ذات مرة: نحن لا نقاتل اليهود لأنهم يهود ، نقاتلهم لأنهم احتلوا أرضي "، فكان جهاده داخل حدود فلسطين لا يجاوزها. كان صاحب نظرة ثاقبة، يرى بنور الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله، من كلماته التي خلدت ذكراه أن "معركتنا مع العدو الصهيوني انتقلت من جانب الحجر إلى جانب القنبلة والرشاش والقذائف إلى آخره ..وستتطور في المستقبل على مستوى التحدي مع العدو الصهيوني لأنه لا يجبره على التنازل إلا أن يقدم خسائر كبيرة تضطره الى التنازل والتسليم".. [title]المقاومة والأسرى [/title]رحل الشيخ ولم يشهد في حياته الجهادية اطلاق أي صاروخ ،وبعد عشر سنوات على رحيله أصبحت كل المستوطنات الإسرائيلية الآن في مرمى صواريخ المقاومة وخاصة صواريخ الحركة التي أسسها . كانت قضية الأسرى حاضرة، فهو الأسير السابق ومن ذاق الأسر يكون الأقرب للأسير في معاناته قالها بكل ثقة ويقين" احنا بدنا ولادنا يروحوا غصبا عن اليهود". كانت محاولات أسر جنود الاحتلال في حياته وبعد مماته، وكتب الله الحرية لأكثر من 1070 أسير وأسيرة في سجون الاحتلال في أكبر صفقة في تاريخ النضال الفلسطيني أنجزتها كتائب القسام مقابل الإفراج عن الجندي الأسير جلعاد شاليط فيما عرف بصفقة "وفاء الأحرار"في أكتوبر 2011. رحل الياسين تاركا ورائه غرس متين من الجند والقادة، حمل اللواء من بعده قادة أشداء عظماء، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا. [title]الرنتسي..أسد فلسطين [/title]فكان القائد المجاهد عبد العزيز الرنتيسي الذي عرف بشدته في الحق ومجاهدة الباطل، اشتهر بلقب "أسد فلسطين" دلالة على الشجاعة، سار في ذات طريق الشوكة الذي اختاره "الياسين" وتسلم لواءه من بعده حتى نال الشهادة بعد أقل من شهر على اغتيال الشيخ المؤسس. هو الطبيب المعروف، المتمرد على السياسات الإسرائيلية، كان بإمكانه أن يمتهن الطب رزقا طيبا له، ويضمن عيشا كريما من وراء ذلك، لكنه أبى واختار طريقا مزروع بالأشواك لا بالورود. نشد في آخر لحظاته "أن تدخلني ربي الجنة هذا أقصى ما أتمنى"، غادر دنيانا بالطريقة التي ارتضاها لنفسه عندما أجاب عن سؤال الموت: أفضل أن يكون "بالأباتشي". [title]وعد تحقق [/title] في بداية انتفاضة الأقصى المباركة 2000، قال في احدى خطاباته : أعطونا خمس سنوات وسنطرد اليهود المحتلين من غزة. جرت الأيام سريعا، بعد عام من رحيل الرنتسي كان ما وعد به، إذ قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون في عام 2005 اخلاء جميع المستوطنات من قطاع غزة كان أكبرها "مستوطنة نتساريم" التي كان ينظر إليها على أنها كـ"تل أبيب" لا يمكن التخلي عنها. ردد كثيرا : أن العدو لا يفهم إلا لغة واحدة هي لغة الحراب، وتمضي الأيام والسنون ليتأكد ثمرة نهج المقاومة، خاصة وأن نشهد نمو المستوطنات كالسرطان في أرضنا تحت مظلة المفاوضات التي وصلت إلى طريق مسدود. أكد دوما على النصر مبشرا بقربه قال في خطبته الشهيرة: سننتصر أيها الإخوة لأن قادة حماس من النساء جدن بفلذات أكبادهن أم أحمد وأم محمد حلس نعم وأم محمد فرحات أم نضال جدن بفلذات أكبادهن ودعن أولادهن وهم يذهبون إلي الشهاده سننتصر يا بوش سنتتصر يا شارون وستعلمون ذلك غدا بإذن الله وكتائب القسام تزلزلكم في حيفا في "تل أبيب" تضربكم في صفد في عكا لأننا أحبابنا لا نفرق بين فلسطين وفلسطين فيافا كغزة وتل الزهور كرفح والجليل كالخليل لا نفرق بين شبر وشبر من الوطن". وفاجأت كتائب القسام الجميع ولأول مرة في تاريخ الصراع بضرب "تل أبيب" والقدس وعسقلان في حرب "حجارة السجيل" 2012 على غزة والتي انتهت بفرض شروط التهدئة على الاحتلال الإسرائيلي. تجدر الإشارة إلى أن النائب الشيخ حامد البيتاوي الذي توفي قبل عامين تقريبا ، أقسم في حواره مع صحفي إسرائيلي في رام الله على كتاب الله بأن "إسرائيل" ستخسر المعركة القادمة على غزة وهو ما كان في حرب 2012 التي جاءت بعد أشهر قليلة على وفاته. [title]نووي حماس [/title]قافلة الشهداء من القادة لا تنتهي، ففي مطلع شهر مارس 2003 ارتقى المفكر والطبيب إبراهيم المقادمة قبل عام تقريبا على رحيل المؤسس والقائد الرنتسي ، وصفه المحللون الإسرائيليون بأنه "نووي حماس". كان ينظر إليه على أنه أبرز مفكري الشعب الفلسطيني الذين نظروا لخيار المقاومة كخيار أخير وحيد واجب التعامل به مع الاحتلال الإسرائيلي ، ودافع عن هذا الخيار حتى يومه الأخير وليس فقط في تأثيره القوي في نفوس حركة حماس والشعب الفلسطيني. مضى رغم أنه لم يعرف طريقه إلى عدسات الكاميرات، عرف بتواضعه وزهده واحتياطاته الأمنية لكن خطورة الفكر الذي يتبناه وينظر له كان دافعا كافيا للقضاء عليه بخمسة صواريخ أطلقتها طائرات إسرائيلية صوب سيارته فارتقى مع حراسه الثلاثة شهداء. مما قال المقادمة "إن دماء الذين سقطوا لن تذهب هدرًا، وإن كنت أشد ما أخشاه ضياع هذه الدماء حتى أصبحت كابوسًا أعيش فيه حتى ألهمني الله رشدي؛ فإن هذه الدماء هناك من يقدِّرها وهو الله- عز وجل- ولن يستطيع أحد تجاوز هذا الخط وتبديده؛ لأن الله وعد ووعده الحق: ﴿إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا﴾ (التوبة: 39". هكذا هم القادة، عاشوا لغيرهم متعبين لا شك، لكنهم عاشوا عظاما وماتوا عظاما، ما زلنا نذكرهم اليوم رغم سنوات مضت على رحيلهم امتلأت بالأفراح والأتراح. إن كلمات القادة "تظل أعراساً من الشموع هامدةً لا حراك فيها" حتى إذا ماتوا " في سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة".كما يقول الشهيد سيد قطب. وتقيم حركة المقاومة الإسلامية حماس مهرجانا تأبينيا ظهر غد الأحد لتأبيد القادة الشهداء:أحمد ياسين ، عبد العزيز الرنتيسي، وإبراهيم المقادمة في ذكرى استشهادهم.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.