مع سكون ليل ما بعد العشاء، تسللنا قاصدين أحد البيوت المستورة بصحبة إمام مسجد الحي، طرقنا الباب بهدوء قبل أن ينادي من بالباب، عرفنا بأنفسنا ففتح لنا، رحب بنا ، أقسم علينا أن نشرب "كأس شاي"، فقبلنا دعوته. جلسنا وتحدثنا معه لدقائق عن أحواله ومعيشته في ظل الواقع الاقتصادي الصعب الذي نعيشه، كان يجيبنا بطيب خاطر ونفس راضية خاتما كل قول بالحمد لله والشكر له. ولما كان غيره بانتظارنا، استعجلنا أمرنا ، شكرناه على حسن الضيافة ثم سلمناه ظرفاً فيه مبلغاً من المال يدبر به أموره على قلته حتى يقضي الله أمرا كان مفعوله. قبل صاحبنا المال على مضض وهو الذي لم يعتد إلا أن يمد يده داخل جيبه فقط، شكرنا وودعنا بالدعاء. [title]تكافل..الفكرة والهدف[/title] هذه صورة مصغرة عن حملة أطلقتها مساجد قطاع غزة "جسد واحد" لمساعدة المعوزين وكفالة الأسر المستورة في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة خاصة مع انقطاع طويل لرواتب الموظفين. وتقوم الفكرة على إنشاء لجنة "التكافل" يقوم عليها عدد من عمار المسجد، مشهود لهم بالخير والصلاح، يتواصلون مع الميسورين والمقتدرين ماليا من الناس في الحي، كأصحاب المال والأعمال والتجارة، وموظفي الخاص والأونروا، وحثهم على التبرع مع بداية كل شهر بما تجود به أنفسهم، ووضعوا حدا أدنى 10 شيقل مع بداية كل شهر للعامة أيضا. ولتيسير عمل اللجنة تم وضع صندوق التكافل في جانب المسجد، كما تقوم اللجنة مع كل شهر بعرض مصروفات ما جمعت لعامة الناس تحقيقا لمبدأ الشفافية في التعامل مع المتصدقين والمتبرعين. وأوضح مسؤول اللجنة في المسجد "أبو الحسن" أن اللجنة هدفها تكافلي للناس جميعا دون تمييز أو استبعاد لأحد ، مؤكدا أن هناك قاعدة بيانات كاملة بالمعوزين من عائلات الحي لتسهيل الوصول إليهم. ونوه أن الأولوية دائما للأكثر عوزا ، نقدم مساعدات عينية حتى للعلاج أو سداد الدين أو دفع أجرة بيت لغير القادر حسب دراسة الحالة والحاجة. وذكر أن قائمة توضع في المسجد لتوضيح مصروفات اللجنة دون ذكر اسم المستهدف، فقط بالأرقام لتأكيد مبدأ الشفافية مع المتبرعين ، شاكرا كل من ساهم بإنجاح هذا المشروع التكافلي في ظل ما نعانيه من نقص في الأموال والأعمال. وقد لاقت الحملة تجاوبا ملموسا من الناس، كما يقول إمام المسجد لفلسطين الآن، مشيرا إلى أن هناك إحساس من الناس ببعضها وشعور ديني وأخلاقي بضرورة الوقوف إلى جانب العائلات المعوزة المستورة. ونوه إمام المسجد "أبو المؤمن" أن هناك عائلات يأخذ أحد أفرادها الميسور حالا، على عاتقه بتفقد جميع أفراد من ينتسبون للعائلات ومساعدة المحتاجين ، موضحا أن إطلاق الحملة في المسجد دفعت مثل هذه العائلات إلى تفقد أحوالها بنفسها وإنشاء صندوق تكافلي خاصة بالعائلة من باب "الأقربون أولى بالمعروف" وهي عائلات معروفة بكثرة أنبائها. بدوره أثنى "أبو إياد" وهو أحد عمار المسجد على الحملة، مذكرا أننا "جسد واحد" وأن هذه سر من أسرار القوة والوحدة دون النظر إلى إنسان من نظرة فصائلية أو حزبية. وقال إن هذه الحملة كانت سببا في صلاة بعضهم في المسجد جماعة بعد مفارقة طويلة، داعيا إلى استمرارها حتى لا تضطر الحاجة أحدهم إلى سلوك طريق غير محمود. [title]التكافل في الإسلام[/title] وتفرض شريعة الإسلام على أتباعها المسلمين أن يَسُود بينهم التعاون والتكافل والتآزر في المشاعر والأحاسيس، فضلاً عن التكافل في الحاجات والمادِّيات، ومن ثَمَّ كانوا بهذا الدين كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضًا، كما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الْـمُؤْمِنُ لِلْـمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا" أو كالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالحمى والسهر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْـمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْـجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْـجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْـحُمَّى" ويقول الداعية المعروف راغب السرجاني إن تعاليم الإسلام كلها تؤكِّد التكافل بمفهومه الشامل بين المسلمين؛ ولذلك تجد المجتمع الإسلامي لا يَعْرِف فردية أو أنانية أو سلبية، وإنما يعرف إخاءً صادقًا، وعطاء كريمًا، وتعاونًا على البِرِّ والتقوى دائمًا. وأضاف في مقال له "التكافل الاجتماعي في الإسلام ليس معنيًّا به المسلمين المنتمين إلى الأُمَّة المسلمة فقط، بل يشمل كل بني الإنسان على اختلاف مللهم واعتقاداتهم داخل ذلك المجتمع؛ كما قال الله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]؛ ذلك أن أساس التكافل هو كرامة الإنسان؛ حيث قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70]. وأشار إلى أن القرآنُ الكريم ذَكَرَ صراحة أنَّ في أموال الأغنياء حقًّا محدَّدًا يُعْطَى للمحتاجين؛ فقال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْـمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25]، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ولقد تولَّى الشارع بنفسه تحديد هذا الحقِّ وبيانه، ولم يترك ذلك لِجُود الموسرين، وكرم المحسنين، ومدى ما تنطوي عليه نفوسهم من رحمة، وما تحمله قلوبهم من رغبةٍ في البِرِّ والإحسان، وحُبِّ فعل الخير. واعتبر أن مثل هذه القيم تُعَدُّ عَلامات حضاريَّة بارزة سبق بها الإسلام كُلَّ النُّظُمِ والقوانين التي أَوْلَت هذا الأمر اهتمامًا بعد ذلك؛ فمَنْ كان يَسْمَع عن هداية الأعمى، وإسماع الأصمِّ والأبكم؟!.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.