أعادوني إلى زنزانتي وعقلي معلق مع المكالمة والتهديدات، هو ما أرادوا فعلا أن يحدث لي من تيهٍ وقلق وتخبط.. حاولت إقناع نفسي بأن هذا أسلوب وضيع لمخابرات المحتل، ولكن الشكوك التي تشبثتُ بها تبددت حين أسمعوني مكالمة أخرى والجرافات تحيط بمنزلنا وصراخ أمي وتمتمات أبي تملأ أجواء المكان.. كم غريب هذا الشعور بالضيق، وكأنه إنسان آخر يحاول خنق أنفاسي واعتلاء قمة معنوياتي لتحطيمها كالتماثيل.. ذرفت الدموع كثيرًا وأنا أستمع لصوتهما وأتخيلُ المشهد القاسي.. فمنزلي يحمل لديّ أهازيج خاصة لا يمكن أن تترجمها الكلمات.. كنت في الدقيقة الواحدة أحشو ذاكرتي بمئات الصور التي علقت فيها لذاك المنزل؛ غرفتي وجدرانها الزاهية، والساحة الأمامية تظللها أوراق الدوالي، والشجرة الكبيرة وكم حفرنا أسماءنا على جذعها، كرسي القصب المفضل عند أبي وحتى إبريق الشاي القديم.. كل تفصيل في البيت كان يتراءى إلى ذهني ويصحب معه شجون الحنين والحزن سوية.. لم يفارقني صوت أمي وهي تدعوني ألا أعترف بشيء رغم أن الجرافة كانت تتوقف على باب المنزل، كانت تحاول التظاهر بالعزم بينما تفضحها حشرجة الصوت المجروح، ولم يفارقني أيضًا الشعور بالذنب والمسؤولية عن كل ذلك، ولكنّ الله ألهمني أن أقرأ آيات من كتابه خففت عني الحزن قليلا وأبعدت القلق خطوات صغيرة.. وبقيت على هذا الحال لأيام ولا يعلم بي إلا من خلقني، أحارب النعاس وأشرب الماء فقط كي تروى عروقي المتعبة، بينما كاد رأسي ينفجر من كثرة التساؤلات والتفكير الذي أرهق خلاياي وأعصابي.. حتى جاء يوم علمت فيه أن العائلة استطاعت منع أمر الهدم بالركض في الأروقة القضائية الصهيونية العوجاء.. حينها كانت نار المحققين بردًا وسلامًا عليّ، أحسست بكبرياء الفلسطيني وعزة المؤمن وسناء المخلصين.. سجدتُّ لله شاكرةً وتساقطت دموعي على أرضية الزنزانة وأكاد أجزم أنها حفرت خطًّا رآه مَن بعدي..