19.44°القدس
19.08°رام الله
18.3°الخليل
23.27°غزة
19.44° القدس
رام الله19.08°
الخليل18.3°
غزة23.27°
الأربعاء 30 أكتوبر 2024
4.84جنيه إسترليني
5.27دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.04يورو
3.73دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.84
دينار أردني5.27
جنيه مصري0.08
يورو4.04
دولار أمريكي3.73

قصة الأسير المحرر نائل البرغوثي

خبر: في السجن ذكرى " الصَّبر وقشوره "

ثلاثة وثلاثون عامًا كانت كافية لأن أحفظ كل "الخرابيش" على حائطك, اختلطت ذكرياتي مع حاضري ومستقبلي, شمخت فيها عيوني بين عالم ساكنٍ وسط عوالم متحركة في الخارج, لا ينفك فيه صراعٌ يدور كما تدور طواحين المياه, لتدفع الحياة لأرض محيطة قاحلة, فتجعلها خضراء نضرة, صراعٌ بيني وبين السجان, سجانٌ يحاول منع كل شيء عني وعن إخوتى الأسرى, حتى الأكسجين, كنَا نقاتل الحرمان بالصبر, نعصره نخرج من زيتًا يضيء عتمة الزنزانة, كنّا نشتهي كل مفقود, فلا شيء موجود سوى قليل من المعلبات اللعينة من "السردين, واللحمة, والفول, وغيرها....." وكثيرًا ما كانت تمنع علينا. كانت مفاجأة حين سمحت "مصلحة السجون" للمرة الأولى منذ اعتقالي قبل 27 عامًا بدخول فاكهة "الصبر" للمرة الأولى بأغلى الأثمان, قام بعض الأسرى بتوزيع الفاكهة علينا, وما زاد من الفاكهة أعطوه كمكافأة وعرفان لكبار الأسرى وعمدائهم وكنت أنا من بينهم. حين أعطاني من يوزع الفاكهة, رأى تجاعيد السجن المحفورة على وجهي, كما تحفر المياه في الصم الصَّيَاخِيدْ, ترسم صبرًا في كل خلية من خلايا جسمي.. أمسكت "الصَبْرَ" بِشَوكه, نظرت إليه وقلت: ياسلام ..... صَبْرْ, سبعة وعشرون عامًا لم أرَ فيها فاكهة الصَّبْرْ, مع أني أشرب من كأس الصبر والصمود كل يوم, بكل بطءٍ مَسَحْتُ الشَّوْكَ بِيَدَيْ, نظر إلي الأسرى في القسم, وقالوا: ماذا تفعل يا أبو النور؟ فنظرت إليهم متبسمًا وقلت: ليسجل التاريخ أننا أكلنا الصَّبْرَ وقُشُوره.. وماذا بعد أيها الأحرار, ألم يأتِ موعد الحرية؟ [title]كنافة بالملح[/title] "سيد القوم خادمهم".. يا لها من مقولة رائعة, لم تكن مجازفة أو كلمة عابرة, بل لها صداها هنا داخل السجن, بين أربعة جدرانٍ, وقضبان, ومئات السجَّانِين, كان أنشط هؤلاء أخي وحبيبي يحيى السنوار "أبو إبراهيم", وكنّا نقاتل الفراغ بالقرآن والسياسة والمناقشات والمحاضرات, والمأكولات بما أتيح لنا من إمكانيات.. وفي يوم من الأيام أراد أبو إبراهيم أن يصنع لنا كنافة نابلسية, خصوصًا أن السجن عندنا فيه عشرات الأسرى من مدينة نابلس, قام أبو إبراهيم بجمع "لب الخبز" المتوفر لدينا, وطبخه بقليل من السمنة المعلبة الموجودة "المنجرينا", مضيفًا إليها قليلاً من الجبنة المعلبة البيضاء. أنا لا آكل الحلويات, والسكريات, أحضر أبو إبراهيم قطعة لنا, فرفضت وأصرَّ أخي أبو إبراهيم على أن أتذوقها, ورفضت, قلت له: يا أبو إبراهيم أنا لا آكل الحلويات, وإن كان لا بد فاعمل لي كنافة بالملح.. نظر أبو إبراهيم إليّ قائلا: كنـــافة بالملح يا أبو النور؟ قلت له: ماذا بقي في السجن يا أبو إبراهيم, ضاع الأكل والشرب, مع ضياع لذة الحرية, أعدَّ لي أبو إبراهيم كنافة بالملح فأكلتها وقلت في نفسي: كم أكرهك أيها السجن. [title]الحاجَّة فَرْحَة[/title] حين تبزغ الشمس من الشرق أو الغرب.. لا أعرف؛ فالمكان هنا ساكن, وسط زنزانة مظلمة باردة, لعينة, أقاتلها وأقاتل وجهها العابس كل مساءٍ قبل الخلود لذكريات أمي الرائعة, فتوقظني برودة زنزانتي صباحًا مع الشمس, لتغيظ جبلاً أشمَّ, فتسألني ما أخبار أمك الحاجة "فرحة" يا نائل؟ أجيبها والدمع على شطر عيني يجري: أيتها الزنزانة هلا تعرفت على حمامة زاجلة من فوقك, تخبرني عن أخبار أمي المريضة, أمسك قضبان الزنزانة بين يدي ... أمي هل يطيل الله في عمري لأراك ثانية بعد أعوام من الانقطاع؟ يذوب جسدي بين جدران السجن الأربعة, ويذوب جسد أمي بين أنياب المرض والبعد, كساعة رملية, فأنا داخل السجن وأمي خارجه, والاحتلال حاجز بيني وبينها. ظللت أرسم اسمك أمي في عقلي, أتخيل ابتسامتك كما الموناليزا في متحف اللوفر الفرنسي, حين رأيتها على آخر صفحة في إحدى الصحف العبرية التي تمر على سجني, أغني لك صباح مساء بصوت متقطع". أمي سيدة ريفيه تعشق نور الشمس, تصنع خبزًا, ترسم حلمًا, تزرع فينا القدس, بيتٌ أعمدةٌ أركانٌ نارٌ وضياع, ثوبٌ أغنيةٌ أبناءٌ عطشى وجياع". من شباك الزنزانة رأيت طيور الشنار المهاجرة فحادثتها ما بال أمي؟ هل تشققت على جدران الزمان, وبوابة الانتظار؟ هل ترى يا شنار في عيني غيرها؟.. غادر الشنار ولم يحمل في رجليه شيئًا من الرسائل قط, فما في الزنزانة قلم ولا ورقة لأكتب له, ولا أعرف منطق الطير فأتمتم له, شعرت وقتها أن الرياح القادمة من الغرب حملت شوقي إليها بدفء, لتنقله نحو مدينة رام الله, من نافذة غرفتها وهي على سجّادة الصلاة ترفع يديها إلى الله, تدعوه أن تراني قبل الممات, وتقول: "ربي استودعتك إياه". كانت أمي شاعرة قرية كوبر, قوية صامدة, من الشخصيات النسائية المشهورة التي قادت حملات الإضراب ومسيرات التضامن معنا -نحن الأسرى- في سجون الاحتلال الصهيوني. رأيتها تسير ببطء نحوي, على كرسيها المتحرك, قادمة من إسعاف حملها إلي, والقلب ينبض بقوة, دوار شديد في رأسي, كيف سمح الاحتلال لها أن تراني قبل الموت؟ , لم تمكث إلا دقائق في لغة الشوق والحنين الطويل, يا لروعة هذه الإنسان العظيمة القادمة باتجاهي وأنا مكبل اليدين.. بعدها في 2005 ماتت أمي, نعم ماتت, كانت آخر كلماتها "سلموا على نائل, ديروا بالكم عليه, نفسي أشوفك قبل ما أموت يمَّا". كان لي صديق حميم وعزيز على قلبي أطلق سراحه معي في صفقة "وفاء الأحرار"؛ طه الشخشير "أبو الياسين" أعرف أمه جيدًا, رائحة طبيخها يتدفق في أنفي يحرك مشاعري, حنانها نحوي, فأنا ابن لها, أتذكر زياراتها وحكاياتها, كما يعرف طه أمي "فَرْحَة" بنفس الحجم. عشرون عامًا مكث طه في السجون, قليلاً ما كنا نلتقي, تمر علينا السنوات دون لقاء, مرت الأيام, ملَلْنَا من تعدادها, التقيت معه في سجن واحد, احتضنته وسألته باللهجة النابلسية فهو من نابلس: "إيش أخبار الحجة يا أبو الياسين؟" تَنَهَّد طويلاً وتكلم قليلاً فقال: "الحجة ماتت يا أبو النور؟" ، صعقت وقتها. لم أعرف بموتها, يا الله رحمك الله يا أم طه... لحظات من الصمت والترقب والأسف سادت المكان, مع نسائم الاعتذار أحاول ألقيها لقلب أخي, نعم لقد ماتت أم طه عام 2003. لم ألتق طه إلا بعد سنوات فسألني: إيش أخبار الحاجَّة "فَرْحَة" يا أبو النور؟ فقلت له والدمع في عيني: "فَرْحَة" عند ربها مع أمك يا أبو الياسين. وبعد سنين طوال, تعدت حدود الزمن, تحدَّت لعنة التاريخ, وغضب الجغرافيا, وقسوة المحتل, انتزِع حق الأسرى بالخروج, حقٌ تعدّى "الفورة" والبِنْطَال, وساعة الرياضة, والزيارة, والتعذيب, والتحقيق, والنسيان, تعدَّى مفاهيم السجان, صدق الله وعده وخرجنا أنا وطه, أمضيت 33 عامًا, وطه 21 عامًا في سجون الاحتلال, بعدها ذهبت للقاء أمي أنا وطه، سلمت على قبرها وعلى من لم يحالفني الحظ بلقائهم.