9.45°القدس
9.21°رام الله
8.3°الخليل
13.78°غزة
9.45° القدس
رام الله9.21°
الخليل8.3°
غزة13.78°
الجمعة 27 ديسمبر 2024
4.59جنيه إسترليني
5.16دينار أردني
0.07جنيه مصري
3.81يورو
3.66دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.59
دينار أردني5.16
جنيه مصري0.07
يورو3.81
دولار أمريكي3.66

خبر: تونس من الثورة إلى الدولة (١)

في المبنى العتيق في حي القصبة في تونس العاصمة الذي كان يطلق عليه مبنى الوزير الأول في عهد بورقيبة وبن على ورئاسة الحكومة كما أصبح يطلق عليه الآن في تونس، التقيت مع حمادي الجبالى أول رئيس لحكومة منتخبة في تونس منذ الاستقلال بعد يومين من تسلمه مهام منصبه في السادس والعشرين من ديسمبر الماضي. كان يجلس في نفس المكتب الذي كان يجلس عليه الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن على اللذين كانا يطاردانه وحركة النهضة التي كان يتولى منصب أمينها العام طوال ثلاثة عقود. لقد اختار الجبالي السجين السياسي السابق مكتب رئيس الجمهورية في المبنى، ليكون مكتبه وليس مكتب الوزير الأول الذي كان يجلس فيه كل من عمل من قبله مع بورقيبة وبن على. وقبل أن ألقاه مال على أحد العاملين معه وقال، نادرا ما دخل بورقيبة طوال سنوات حكمه هذا المكتب، أما بن على فلم يدخله سوى ثلاث مرات طوال سنوات حكمه. سألت حمادي الجبالى وأنا أميل عليه قائلا: هل أنت متأكد أن مكتبك هذا خالٍ من أجهزة التنصت رغم أنك رئيس الحكومة؟ ضحك بصوت عالٍ وقال لي: نعم هناك أجهزة تنصت لكنها مزروعة من قديم، حيث كان يتم التنصت على كل من في هذا المبنى من رئيس الحكومة حتى الوزراء والموظفين. قلت له: لقد أصبح وزير الداخلية أشهر سجين سياسي في عهد بورقيبة وبن على وهو علىّ العريض الذي سبق أن حكم عليه بالإعدام وارتدى البدلة الحمراء في عهد بورقيبة وبقى ينتظر تنفيذ الحكم كل ليلة حتى انقلب بن علىّ على بورقيبة وأفرج عنه ثم اعتقله وسجنه مرة أخرى. وتشاء الأقدار أن يصبح هو وزير الداخلية بعد الإطاحة بابن على والمجيء بحكومة منتخبة. وعليه الآن أن يجيد كيفية التعامل مع أجهزة التنصت هذه؟ وأن يخبرك ويخبر الشعب ماذا سيفعل في أجهزة التنصت المزروعة في كل مكاتب المسؤولين في الدولة؟ ضحكنا ثم أكملنا حوارنا لكنى شردت بعد ذلك في الدولة الأمنية الاستخباراتية التي أنشأها بورقيبة وطورها من بعده بن على. لقد أنشأ زين العابدين بن على دولة أمنية مخابراتية يتجسس فيها الجميع على الجميع، وفى النهاية أقام في قصر الحكم منظومة تحوى أعلى مستوى لأجهزة التنصت بخبرة إسرائيلية، حيث كان يتجسس هو من خلالها حتى على من يتجسسون على الآخرين، وكان ينفق -حسب تقديرات لجنة الفساد- مئتين وخمسين مليون دينار تونسي سنويا من ميزانية الرئاسة على التجسس والتنصت على موظفي الدولة والمواطنين، وفى النهاية هرب ذليلا مذعورا خائفا ليدخل إلى مزبلة التاريخ. لقد كانت المسافة كبيرة بين دخول حمادي الجبالى في السادس والعشرين من ديسمبر الماضي 2011 إلى مكتب رئيس الجمهورية في مبنى الحكومة في حي القصبة القديم كأول رئيس حكومة منتخب في تاريخ تونس الحديث، وبين سنوات النضال الطويلة التي خاضها الشعب التونسي منذ الاستقلال حتى يحصل على الاستقلال الحقيقي وينعتق من نظام الحكم الشمولي المستبد الذي امتد إلى ما يقرب من ستة عقود، وربما كان إقدام محمد البوعزيزى على حرق نفسه في السابع عشر من ديسمبر من عام 2010 هو الشرارة التي أشعلت الغضب الكامن في نفوس التونسيين طوال العقود الستة الماضية، لقد قدم آلاف التوانسة أرواحهم فداء لبلادهم خلال سنوات الحماية الفرنسية حتى يحصلوا على حريتهم واستقلال بلادهم، لا أن ينتقلوا من نظام الاحتلال والحماية إلى نظام الحكم الشمولي المستبد الذي أقامه بورقيبة ومن بعده بن على، لكن شاءت الأقدار أن تكون النيران التي اشتعلت في جسد البوعزيزي هي الشرارة التي أحرقت نظام الاستبداد والطغيان في تونس. مثل كل القرى والمدن التي تقع في دول يحكم فيها طغاة مستبدون شاهدت وأنا أجوب المدن الوسطى والغربية من تونس -حيث اشتعلت الثورة- حياة الناس المزرية المليئة بكل الآفات والأمراض والعلل الجسدية والنفسية. وكنت أتساءل دائما لماذا يصبر الناس على الطغيان حتى يصل بهم الحال إلى هذا المدى؟! لكنى بعد ما يقرب من عام من دراسة جوانب كثيرة للثورة التونسية ومعايشتي للثورة المصرية ومتابعتي للثورة الليبية وغيرها من الثورات التي ما زالت قائمة في اليمن وسوريا أدركت أن هناك عوامل كثيرة يجب أن تتوافر حتى تقوم الثورات، فقد أحرق كثيرون أنفسهم قبل البوعزيزي ولم يسمع بهم أحد، لكن هناك عوامل كثيرة أدت إلى أن يكون جسد البوعزيزي هو وقود الثورة في تونس، ومن بعدها الثورات العربية، لكن الأهم من قيام الثورات هو كيفية الانتقال من مرحلة الثورة إلى الدولة، التي ما زالت تتعثر فيها معظم الدول التي قامت فيها الثورات عدا تونس، فكما كانت تونس سباقة قي قيام الدولة كانت سباقة كذلك في الانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة، وهذا ما سوف نتناوله في الأسبوع القادم.