عقب انتهاء شهر رمضان المبارك العام الفائت نشأت مشكلة في تباين التوقيت بين غزة ورام الله، حيث أعادت حكومة رام الله العمل بالتوقيت الصيفي، بينما ظلّت حكومة غزة على التوقيت الشتوي الذي تم العمل به منذ بداية شهر رمضان لدى الحكومتين. وحينها كانت هناك بعض المؤسسات في غزة كالبنوك وجامعة الأزهر تصرّ على إعلان أنها ما زالت تتعامل بالتوقيت الشرعي من وجهة نظرها (أي توقيت رام الله)، حتى إن أحد البنوك في غزة كان يعلق يافطة على مدخله –كما ذكر لي أحد الكتاب من غزة- تبيّن مواعيد الدوام مذيلة بعبارة: (حسب توقيت الشرعية – رام الله). ومع ذلك فلم يتم إغلاق البنك ولا محاسبة مسؤوليه. بطبيعة الحال، فإن تباين التوقيت حينها بين غزة والضفة كان مهزلة بحق، بغض النظر عن مدى مسؤولية كل طرف عن هذا الأمر. لكنّ ما جعلني أتذكر الحادثة هو ما حصل مؤخراً مع الإعلامي خالد العمايرة من الخليل، حيث تعرض للاحتجاز لدى جهاز الأمن الوقائي ثلاث مرات على خلفية لقاء له مع فضائية الأقصى نعت خلاله رئيس الوزراء إسماعيل هنية بأنه شرعي، وهو ما يعني في عرفهم شتيمة لحكومة رام الله! ولست أدري ماذا سيكون الحال لو أن مؤسسة في الضفة عامة أو خاصة أعلنت على الملأ أنها خاضعة لقوانين (شرعية غزة)، لا شكّ أننا حينها كنا سنشهد حملة أمنية لا أوّل لها ولا آخر ضد هذه المؤسسة ومن يقفون خلفها، بالتزامن مع حملة إعلامية تشنّها أبواق النفاق والمعايير المعوجة تهاجم فيها (بوادر الانقلاب) على الشرعية المزيفة!. ما حدث مع الإعلامي العمايرة ليس مستغرباً على جهاز الأمن الوقائي، لأن الجهاز سمح لنفسه على مدار السنوات الخمس الماضية بأن يسرف في محاسبة الناس على قناعاتهم لدرجة مثيرة للاشمئزاز، كان يبدو معها أن الجهاز طامح لأن يغدو نسخة عن أجهزة الأمن في دول الاستبداد العربية، وكان عناصر الجهاز منهمكين في زرع الخوف في نفوس الناس عبر مراقبة الجامعات والمساجد ووسائل الإعلام، وفي متابعة المنتديات الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، وكان كثيرون منهم يتطوعون لتهديد من يعرفون من الناس على خلفيات سخيفة للغاية، بينما كانت مثلاً العضوية في المنتديات التي تعدّ محظورة في عرف الأجهزة الأمنية تكلّف أصحابها السجن أو الاستدعاء والاستجواب. وفي (دولة القانون والمؤسسات) التي أرسى دعائمها فياض، فإن القانون هو أكثر عنصر غائب عن واقع الممارسة، ذلك أن الكلمة الأولى كانت ولا تزال لحفنة مخبرين من عناصر الأجهزة الأمنية، يتفننون في رصد ما يعدّونه جرائم، ويتطوعون لحساب الناس عليها دون النظر في مدى قانونية مسلكهم. لكنني هنا لستُ ألوم الأجهزة الأمنية، فهي في الضفة الغربية كما في أي مكان، لا تتمادى في غيّها وتجاوزاتها القانونية إلا بمقدار ما يسمح لها الناس بذلك، وما زلتُ أعجب حقّاً كيف يسمح أي مواطن عادي أو نشاط سياسي لمحقق بأن يستجوبه حول قناعاته وأفكاره، أو أن يلزمه بعدم انتقاد رموز السلطة عبر وسائل الإعلام أو في المجالس العامة، لأن وعي المواطن بحقوقه ينبغي أن يكون كافياً لدرجة تعطيه الجرأة لرفض التعاطي مع أي استجواب حول قناعاته وأفكاره وحريته في التعبير. وما دام قانون السلطة ذاتها يقول إن المواطن غير محاسب على رأيه وإن الحريات الإعلامية مصانة ولا حدود لها، فلا يجوز بأي حال قبول المساس بهذه الحقوق، أو الخضوع لإملاءات قانون الغاب ومزاج الأجهزة الأمنية وعناصرها مهما كانت التبعات!. أما أجهزة السلطة فإن كانت لا تزال تظن بأن الأساليب المتخلفة في محاسبة الناس على قناعاتهم يمكن أن تغيّر تلك القناعات فهي واهمة، لأن الحقائق على الأرض لا يغيّرها إنكارها، أو إلزام الناس بالصمت عنها، وليتها تعي فقط بأن آثار الغضب حين يظل حبيس النفوس أخطر بكثير من أخطاره حين يجد السبيل لترجمته والتعبير عنه من خلال الإعلام أو النشاط الميداني المشروع، لكنّ منطق الاستبداد والهيام بتقاليده سيظلّ غير قابل للتغيير لدى من لا يحسن الاعتبار بمن حوله، ولدى من يأبى الاقتناع بأن ممالك الخوف لن تلبث أن تهوي وتدوسها الأقدام، ودون أن تجد من يأسف عليها!.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.