صباح يوم الجمعة 28 يناير الماضي خرج الشاب عبد الهادي فرج ابن العشرين عاما من بيته متجها إلى ميدان التحرير. قاوم ضغوط أمه وشقيقاته وأبيه سائق التاكسي، ورفض أن ينصاع لنصائحهم التي دعته للبقاء في البيت. وبعد أن تفلَّت منهم لم يستغرق هبوطه من الطابق السادس الذي تسكن فيه أسرته سوى ثوان معدودة، كان بعدها في الشارع الذي واصل الركض فيه، لكي ينضم إلى المتظاهرين الذين كانت هتافاتهم تزلزل الفضاء في الميدان. لكنه قبل أن يصل إلى مبتغاه تلقّى رصاصة في ظهره أسقطته على الأرض. ولم تنتصب له قامة منذ ذلك اليوم وحتى هذه اللحظة. فقد أصابته الرصاصة التي انطلقت من قسم شرطة السيدة زينب بشلل رباعي أفقده القدرة على الحركة. وفي حين برأت المحكمة ضباط قسم الشرطة بدعوى أنهم كانوا في حالة دفاع عن النفس ضد المتظاهرين، فإن عبد الهادي فرج صار قعيدا، لا يستطيع أن يتحرك إلا محمولا في ملاءة. كان طالبا في السنة الثانية بالمعهد التجاري الفني بالمطرية، وشأن أمثاله من الفقراء الذين يعجزون عن مواصلة تعليمهم الجامعي، ويفضل أهلوهم إلحاقهم بالمعاهد المتوسطة لكي يتخرجوا بسرعة تمكنهم من الحصول على شهادة تحفظ ماء الوجه، ثم يلقون بأنفسهم في سوق العمل بحثا عن أي مورد للرزق يسد الرمق، ويخفف العبء عن الأب، وربما استطاع أن يسهم في نفقات البنات، لكن كل تلك الأحلام المتواضعة تبخرت. ليس ذلك فحسب وإنما أصبح عبد الهادي حيا على الورق وميتا في الحقيقة. اختفت جذوة الأمل من عينيه، بعدما صار عبئا على أسرته، وهو الذي كان يحلم بأن يكون عونا لها. أمضى سبعة أشهر في المستشفى الفرنسي بقصرالعيني، لم يفلح خلالها الأطباء في أن يعيدوا إلى أطرافه شيئا من الحياة، فأعادوه إلى بيته في الطابق السادس محمولا في ملاءة لملمت أطرافه، ومنذ ذلك الحين لم ير الشارع الذي كان يذرعه راكضا صباح مساء. وطوال الأشهر السابقة وحتى الآن فإنه يخضع لعلاج طبيعي يخفف من أثر الموت في عضلات جسمه. وهو العلاج الذي يتكفل به بعض المصريين الشرفاء الذين تبنوه وقدموا له الرعاية الطبية التي يحتاجها. وهذه النماذج النادرة من البشر ضمت نساء ورجالا قرروا أن يقوموا بذلك العمل النبيل، وأن يظلوا جنودا مجهولين ينفقون من أموالهم وأوقاتهم في صمت الرهبان وإخلاص أولياء الله الصالحين. شجعهم على ذلك أنهم وجدوا أن غيرهم حول الرسالة الجليلة إلى مادة للتهريج والتسويق السياسي. حتى صار حضورهم في وسائل الإعلام بديلا عن حضورهم إلى جوار الضحايا. بطبيعة الحال فإنه انقطع عن الدراسة، وكما فقد قدرته على الحركة فإنه فقد قدرته على الحلم. رغم أن أحلامه كانت متواضعة أصلا شأن أمثاله من الفقراء. وحين قيل له إن الأمل ضعيف في علاجه بألمانيا وإن تكلفة العلاج تدور حول ربع مليون يورو، فإن ذلك الحلم الذي طاف بخاطره في لحظة زمن، اختفى ولم يعد يراوده حتى في المنام. صارت غاية امنتياته في الوقت الراهن أن يرى الشارع وأن يشعر بأنه إنسان وليس مجرد كتلة من اللحم والعظم يتوسطها قلب يدق وفوقها عينان وأذنان وأنف وفم، الأمر الذي حوَّله إلى كائن تتاقسمه الحياة والموت، وأفقد الموت الحياة معناها. يريد الذين تبنوه أن يضيفوا إليه جرعة من الحياة، وفكروا في أن يشتروا له قطعة أرض مجاورة مساحتها ستون مترا، يبنون عليها بيتا صغيرا يسكنه ومتجرا يتقوت منه. بحيث يكون قريبا من الشارع وتصبح لحياته بعض المعنى، فضلا عن انه يجنبه مشقة استحالة الصعود والنزول محمولا على الأعناق من وإلى الطابق السادس. علمت أن هناك ثلاثة آخرين من أمثاله أصيبوا بالشلل بالرباعي، أميتت أجسامهم أيضا وقتلت أحلامهم. واحد في حي العجوزة بالقاهرة، والثاني في كفر الشيخ، والثالث في الإسكندرية. وقيل لي إنهم يعانون عذابات كثيرة في حصولهم على العلاج الطبيعي الذي يحتفظ لأجسامهم بعض الحياة، وفهمت أن ثمة مركزا متقدما للعلاج الطبيعي جرى افتتاحه قبل أيام، وتم تزويده بأجهزة متقدمة وحديثة. لكن قيل لي ــ والعهدة على من روى ــ أن الأجهزة الحديثة محجوزة لبعض كبار الضباط من اللواءات، ومشكلة أمثال عبد الهادي فرج أنهم ليسوا لواءات (لست واثقاً أن من بينهم أحد ممن قتلوه)، بل ليسوا مواطنين عاديين، ولكنهم بالكاد مواطنون محتملون!.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.