يحقّ لنا أن نضع آلاف علامات الاستفهام على قَطْع السلطة ورشة عمل المصالحة الداخلية لأخذ (إجازة) في ربوع صحراء التفاوض، وأن نصغيَ لمن سيقول إن التوجه للمصالحة لم يكن يحمل ذلك القدر من الجدية إلا بما يعين حركة فتح على التخلص من أزماتها المختلفة، وعلى إغراء الجانب الإسرائيلي ليرجع عن تمنّعه السياسي عنها، فيعود الحراك السياسي العبثي ليوهم الفلسطينيين بأن هناك جديداً ستأتي به قيادة السلطة من مفاوضاتها غير المنتهية مع الاحتلال. حاجة السلطة ممثلة بحركة فتح للتفاوض لا تنبع من قناعتها بجدوى هذا المسار، أو بقدرته على نقل مشروع الدولة الفلسطينية مقدار خطوة إلى الأمام، لكنها تحتاج إليه لكي تقنع أنصارها وعموم الفلسطينيين أنها لم تعدم خياراتها السياسية، وبأن لديها مشروعاً حقيقياً، وبأنها لم تصل إلى مرحلة الانسداد، ولم تصطدم بعد بجدار التعنّت الإسرائيلي، وبأنه ما زال هناك جدوى للتعويل على الوعود الأمريكية وجدية الغرب وخصوصاً الرباعية في منح الفلسطينيين دولة وسيادة! وهذا الحرص الكبير على عدم رفض أية مبادرة للتفاوض، حتى مع علم قيادة السلطة بأن المحصلة ستكون صفراً كبيراً، لا يفسّره سوى خوف قيادة السلطة من تبعات أن يجد الفلسطيني نفسه أمام حالة من الضياع وانغلاق آفاق الحلّ، فيبادر للخروج منه بتفجير حالة الجمود والسكون إما بانتفاضة جديدة في وجه الاحتلال، وإما بتمرّد داخلي يصعب التكهّن بشكله ومداه ومآلاته. فحين يكون هناك مسار تفاوضي ما، ستظلّ قيادة السلطة في الضفة تحظى بمبررات رفض وقمع البدائل، والاستفاضة في تجريم من يحاولون تخريب المساعي السياسية لتحصيل الحقوق وانتزاعها عبر المعارك التفاوضية، أما الجمود على هذا الصعيد فهو كفيل بتجنيد الكلّ الفلسطيني خلف القناعة بالخيارات الأخرى، والتي لن تستطيع القيادات السياسية ضبط بوصلتها إن غدت واقعاً متفاعلاً. مسار سلطة الضفة هو جامد وعبثي في جميع أحواله، وما تأكيدات رئيسها عباس على أن الانتفاضة ليست خياراً أو بديلاً مطروحاً بأي حال إلا دليل على أن قيادة السلطة ما زالت تمارس عملية تضليل واسعة في مساعيها السياسية المختلفة، والهدف منها فقط الإبقاء على تلك الشعرة الواهية بين خطابها ووعي الجمهور، والتي إن انقطعت فستجد السلطة نفسها أمام الحقيقة التي تجتهد في تأجيلها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. ذلك أن تقادم الوقت ما زال يقدم دلائل إضافية على عبثية الاستمرار في تجريب الحلول السياسية لانتزاع الحقوق من بين فكّي الاحتلال، ومن يراهن على جدوى المبادرات والحلول السياسية مع كيان كالاحتلال هو مصاب في ضميره ووطنيته قبل أي شيء آخر، لأننا يفترض أن نكون قد تجاوزنا ذلك الزمن الذي نبدو فيه محتاجين لأن نبرهن على الوسيلة الأنجع لإجبار المحتل على التنازل. الخطير في نهج حركة فتح الآن هو محاولتها جعل عملية المفاوضات تتم تحت غطاء المصالحة، والإيحاء بأن ثمة إجماعاً فلسطينياً على العودة لطاولة المفاوضات، أو على الأقل فهي ستضمن بهذا أن تخفف الحاجة للمصالحة من حدّة الرفض الشعبي والفصائلي لمسلك السلطة، وأن تصبح عملية التفاوض نهجاً شرعيّا، وهو ما سيعطي السلطة وأجهزتها الأمنية مبررات مفتوحة لقمع كلّ من سيتهم بأنه يعمل على تخريب (مساعيها) السياسية، حتى لو كان بمستوى احتجاجات شعبية ضد الاحتلال والمستوطنين، أو حتى تحركات سلمية ضد خيار التفاوض. لذلك كلّه، لا ينبغي التقليل من خطورة ما يجري، ولا الاستهانة به أو تأجيل النظر فيه مقابل إحراز تقدم في ملفات المصالحة الأخرى، لأن كل شيء سيبدو ثانوياً أمام تحصيل قيادة السلطة غطاء سياسياً لخطواتها التفاوضية، والتي تهدف منها كما أشرنا إلى قطع الطريق على أية محاولة لكسر الجمود، والإيهام بأن هناك نضالاً سلمياً حقيقياً تخوضه لنيل الحقوق، ولا ينبغي معه لأحد أن يفكر في خيار بديل أو يطرحه على الطاولة. وأرجو ألا يظن أحد أن نتيجة الانتخابات القادمة ستلزم السلطة بالتحول عن مسارها في حال لم تكن لمصلحتها، ليس فقط لأن علينا أن نعيد دراسة ما جرى عقب انتخابات 2006، بل كذلك لأن خيار التسوية غدا عنوان ديمومة السلطة في الضفة وضمانة مصالح قطاع كبير من الناس، وهو ما سيفرض على كل من سيديرها لاحقاً أن يخضع لهذه الاعتبارات حتى وإن خالفت هواه، في وقت يحتاج فيه الوضع الفلسطيني إلى حل جراحي وليس ترقيعيا!.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.