لو أن السيد محمد العرابى وزير الخارجية هو الذى قدم استقالته بعد أسبوعين من تعيينه فى منصبه، فله عندى تحية واجبة، أما إذا كان قد أقيل فالذين أقالوه يستحقون العتاب. لقد كنت أحد الذين انتقدوه فور إعلان نبأ تعيينه فى منصبه، وقلت إن كثيرين يشهدون له بما يتمتع به من فضائل شخصية، ولكن سياسته ومواقفه هى موضع التحفظ ومناط الاختلاف معه، إذ اعتبرته مناسبا لمرحلة ما قبل 25 يناير، وامتدادا طبيعيا للسيد أحمد أبوالغيط، آخر وزراء خارجية النظام السابق. من ثم فقد اعتبرته الوزير المناسب للزمن غير المناسب. لا أعرف ما إذا كان الرجل قد أدرك ذلك أم لا، وإن كان المحيطون به يتحدثون عن تأثره بالنقد الذى وجه إليه، وعن ضغوط أسرته التى فوجئت بعدم الترحيب به ولست واثقا مما قيل عن أنه تلقى تلميحات توحى بصعوبة استمراره فى منصبه فى ظل تعدد الأصوات التى اعترضت على وجوده. أيا كان السبب فالشاهد أن الرجل لم يحتمل هذه الأجواء، وقرر أن يستقيل، رغم أنه لم يختبر بعد. وإذا صح ذلك فإنه يستحق التحية والتقدير، لأنه امتلك شجاعة التخلى عن منصب يحلم به ويركض وراءه كثيرون من الدبلوماسيين. وهذه فضيلة تضاف إلى شمائله الأخرى. وفى بلد الفراعين الكبار والصغار، فليس سهلا التنازل الطوعى عن منصب الخارجية، رغم ما يوفره من وجاهات وسفرات فى أنحاء العالم ولقاءات مع الزعماء والرؤساء، الأمر الذى يعنى أن مقاومة هذه الغوايات مما يحمد للمرء ويزكيه. حتى أزعم أن خروجه بهذه الطريقة أكرم له وأشرف من استمراره فى ظل النقد الذى لم يتوقف سواء لتصريحاته على قلَّتها، أو على خلفية خدمته فى إسرائيل أو علاقته بالنظام السابق ورئيسه. إننا نعرف مسئولين كبارا رفضهم الرأى العام لأسباب تتعلق بالكفاءة الشخصية أو الذمة المالية ومع ذلك فإنهم تحدوا الرأى العام واستمروا فى مناصبهم، غير مبالين بما يقوله الناس عنهم، مكتفين برضا المسئولين الأرفع عنهم. وكانت النتيجة أنهم فازوا برضا أولئك المسئولين وخسروا الشارع. ومثل هذه النماذج كثيرة قبل الثورة وبعدها. وفى كل الأحوال فإننى أفضل كثيرا أن يتساءل الناس لماذا استقال المسئول وتتعدد اجتهاداتهم فى ذلك، بدلا من أن يستشعروا أن المسئول متشبث بالكرسى رغم استمرار تجريحه ويردد الجميع سؤالا واحدا هو: متى يغادر الرجل المنصب ليريح ويستريح؟ إذا صح الاحتمال الآخر، وكان المسئولون قد ارتأوا أن مغادرة السفير العرابى منصب الوزير من شأنها أن تحسن صورة الحكومة وتجنبها الحرج، فإن ذلك يستدعى عدة أسئلة، منها على سبيل المثال: كيف يمكن أن يطلب من الرجل الاستقالة بعد أسبوعين من توليه المنصب؟ وإذا كان الذين عينوه قد اكتشفوا أنه مرفوض من الرأى العام فكيف تحروا عنه إذن ومن الذى قام بتلك التحريات قبل تعيينه؟ وإذا كانوا قد أخطأوا الاختيار هذه المرة، أليس من الجائز ــ والحاصل ــ أن يكونوا قد ارتكبوا الخطأ ذاته فى حالات أخرى؟ إن موقع وزير خارجية مصر خصوصا بعد الثورة له حساسيته ووضعه الخاص، حيث علق كثيرون آمالا كبيرة على الوضع المستجد، إلا أننى أفهم أن الأولوية معطاة فى الوقت الراهن لملفات الوضع الداخلى، لأن عافية الداخل شرط لممارسة دور له قيمته فى الخارج. ولذلك فإن ملف السياسة الخارجية شبه مجمد فى حدود معينة. يستثنى من ذلك ما يتعلق بالأمن القومى المصرى مباشرة. وهذه الأجواء صورت لآخرين أنهم يمكن أن يحتلوا مكانة مصر ودورها فى العالم العربى، وقد شهدت تحركات وممارسات من ذلك القبيل ظن أصحابها أن مقعد مصر فى مركبة القيادة العربية قد خلا، وأنهم أصبحوا مؤهلين للعب دور «الشقيقة الكبرى». وهو الوصف الذى كان بمثابة زلة لسان تورط فيها السيد العرابى فى إحدى زياراته العديدة. لهذه الاعتبارات فإن اختيار وزير جديد للخارجية يمثل الثورة المصرية حقا، ويدرك حقيقة وحجم البلد الذى يمثله، كما يدرك دقة الظرف التاريخى وأولوياته. هذه المهمة من الدقة والصعوبة بمكان. ولذلك فإن إحسان الاختيار لها يغدو ضروريا، ولست أشك فى أن وزارة الخارجية تعد أحد معاقل الوطنية المصرية، وأنها حافلة بالعناصر التى تشرف البلد فى هذه المرحلة. لذلك أزعم أن المشكلة ليست فى العثور على الكفاءة المناسبة، ولكنها فى معايير وجهة الاختيار بالدرجة الأولى.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.