بقصد أو بحسن نية أو عن جهل؛ يستطيب قطاع غير قليل في أمتنا التموضع في دائرة الطائفية، والانطلاق بأفكارهم ومواقفهم وأحكامهم منها، وتوصيف المواقف السياسية المختلفة وفق بعدها المذهبي فقط. هذه القضية ليست مستجدة في المنطقة العربية والإسلامية، وهي لم تفتأ تطلّ برأسها من حين لآخر كلما استحكمت الأزمات وتداخلت فصولها، أي حين تتعدد مداخل الفتنة ويصعب التصدي لها، ويشكل على المرء التمييز بين الأولويات، فتقع شريحة كبيرة من الناس فريسة لشحن طائفي مركز يصيب رؤيتها في مقتل، ويتحكم بها، ويفرض وصاية حادة على مخرجاتها. اليوم، وفي ظلّ الربيع العربي، وخصوصاً بعد اندلاع الثورة السورية، عاد شبح التسخين الطائفي إلى الواجهة، وانخرطت في أواره جهات عديدة من الشارعين السني والشيعي، امتدت إلى بعض التيارات والعلماء وقادة الرأي، وهو ما يشي بأن هناك من يستغل تلك الأحداث لينفث في الأمة ريح الخلافات المذهبية من جديد، والتي باتت تشتدّ بشكل ينذر بخطر تحوّلها إلى مركز اهتمام الفرد والمجموع. المفارقة هنا، أن الشعب السوري الذي أشعل الثورة ما زال بعيداً عن النفَس الطائفي، وما زال معظم الناشطين في الثورة والموجهين لها والقائمين عليها يؤكدون على براءتها من الطائفية، رغم أن الجانب الآخر غرق في وحلها، ومعه حلفاؤه الذين ناصروه بدوافع طائفية بالدرجة الأولى. وفي المقابل نجد النغمة الطائفية التحريضية ترتفع لدى بعض غير السوريين ممن يؤيدون الثورة، وخاصة جهات وشخصيات وتيارات خليجية، ودون أن يعي هؤلاء حجم الضرر الذي سيجلبونه للثورة السورية ومسارها حين يختزلون حراكها في حساباتهم الطائفية، وهي الحسابات التي لم يلتفت إليها معظم المنخرطين في الثورة من أهل سوريا. قد يقول قائل هنا إن من بدأ الشحن الطائفي هو الطرف الآخر، أي المعسكر الشيعي، وإن من يبني مواقفه وفق حساباته المذهبية هم حلفاء النظام السوري وتحديداً إيران وحزب الله، وهذا صحيح إلى حد ما، فالبعد الطائفي كان ولا يزال نقطة ضعف الأنظمة والتيارات الشيعية، حتى بات مقدماً على الحسابات السياسية الخالصة، وعلى الاكتراث بأثر المواقف السياسية المتطرفة في دعم النظام السوري على شعبية وحضور تيار مقاوم كحزب الله في صفوف الأمة الإسلامية وتحديداً في أوساط الشارع السني. لكن الانزلاق إلى خانة الطائفية من قبل الطرف الآخر (أي الشيعة) لا يجوز أن يبرر للطرف المقابل (السنة) الاتجاه نحو سلوك مماثل ولكن في الاتجاه المضاد. وعلى العلماء المسلمين من أهل السنة أن يتنبهوا لمخاطر اللغة الطائفية المشحونة التي باتت تتمدد في أوصال الأمة، وأن يضطلعوا بدور يليق بمسؤوليتهم عن صيانة وعي الأمة من الانحراف، وعن الحفاظ على بوصلتها من أن تتحول نحو أولويات أخرى، كأن ترى في إيران خطراً كبيراً يحدق بالأمة يهون إلى جانبه الكيان الصهيوني، أو أن تتصور أن عليها التصدي للشيعة كطائفة، وتناصب كل تنظيم مصنف فيها عداءً مبدئياً يطال حتى العلاقات السياسية. إن الظلم والاستبداد والإفساد ليسوا حكراً على مذهب دون آخر، وحين انتفض الشعب السوري على النظام، كان يثور عليه بسبب فساده وقمعه ودكتاتوريته، وليس لأنه نظام علوي. والأمر ذاته ينسحب على بقية الثورات، وهذا ما يجب ألا يغيب عن بال العلماء وقادة التيارات الإسلامية في تنظيرهم للثورات وانتصارهم للمظلومين، ولعلّ المسؤولية الأهمّ ملقاة على عاتق كبرى التيارات السنية في العالم وهي حركة الإخوان المسلمين، والتي يشهد لها تاريخها بتوازن الموقف تجاه هذه القضية، فهي لا تجد ضيراً في أن تصب كل جهود النصرة خلف تيار شيعي مقاوم للاحتلال الصهيوني، كما حصل خلال حرب 2006 بين الكيان وحزب الله، كما أنها في المقابل لا تتوانى عن إدانة الظلم والاستبداد حتى وإن صدر عن نظام أو تيار منتسب لأهل السنة. إن الانتصار لمبدأ أهل السنة والجماعة واجب دون شك، لكن هذا الانتصار لا يكون من بوابة الهجوم الطائفي على الطرف المقابل، أو اختزال كل حدث في دائرة المذهبية، وتصدير الخطاب الطائفي إلى الواجهة، وإشغال الأمة به. لكنّ هذا الانتصار يكون بتقديم نماذج سنية تليق بالمبدأ السني الذي يجمع ولا يفرّق، ويحتوي ولا يشتت، لأن المبدأ الأصل لا يجوز أن يسلك مسلك الفروع التي تبقى أسيرة هواجس مشاريعها الضيقة، وخشيتها من الذوبان. وهذا يقتضي أن يبادر قادة التيارات الإسلامية واتحادات العلماء المسلمين إلى نزع صلاحية التحدث باسم السنة ممن يسيئون الخطاب أو تستأجرهم بعض الأنظمة التقليدية البائسة لينطقوا عن هواها، فيفسدوا وعي الأمّة، ويخدموا أجندة أنظمة فاسدة، ومن ورائها كل المستفيدين من تمزيق الأمة وتشتيت أنظارها عن أهدافها، وإفساد ثوراتها بتحويل قبلتها نحو الصراعات المذهبية الخالصة!.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.