لم يصدق الجندي (الإسرائيلي) ما يجري حوله. كان ذلك يوم الأربعاء الماضي عندما وجد الأخير نفسه محاطاً بعدد من الفلسطينيين يقولون له إن عناصر دوريته قد تركوا القرية، وإن عليه المغادرة، وإنهم لن يصيبوه بأذى. حدث ذلك في قرية "بدرس" القريبة من مدينة رام الله. أدرك الجندي الحقيقة، وعندما شعر بالأمان، ترك نفسه لمضيفيه الذين أوصلوه سالماً إلى حدود الجدار الأمني الذي سرق أجزاء من أراضي القرية، فكان أن شكرهم وثمّن موقفهم. هذه القصة كانت لأهميتها وما تنطوي عليه من دلالات خبراً رئيساً في صحيفة "يديعوت أحرونوت" في اليوم التالي (الخميس)، وكان أن نقلتها تالياً وكالة "فرانس برس"، ودائماً لأهميتها، من دون أن تنسى الصحيفة وتالياً الوكالة، ومن باب تثبيت المفارقة، الإشارة إلى قصة الجندي جلعاد شاليط الذي أسر وتمت مبادلته بألف أسير فلسطيني. وفيما لم تنقل الوكالة الفرنسية وجهة نظر من نقلوا الجندي بعد منحه الأمان، فقد كانت الصحيفة الإسرائيلية أكثر "مهنية"، حيث نقلت عنهم القول بالنص "لو كان الجندي أصيب ولو بصورة طفيفة لدمَّر لنا الجيش الإسرائيلي القرية" (لا بأس من المبالغة بقصد التبرير، مع أن قتل الجندي في هذه الحالة يشكل مقاومة مشروعة بحسب القوانين الدولية). لم تكن هذه المرة هي الأولى التي يحدث فيها أن يضلَّ مستوطنون أو جنود إسرائيليون طريقهم فيجدوا أنفسهم وسط تجمعات فلسطينية، ثم تقوم الأجهزة الأمنية الفلسطينية بتسليمهم سالمين إلى الطرف الصهيوني. لكن هذه الحكاية الأخيرة تبدو أكثر إثارة من سواها لجهة أن الجندي الإسرائيلي كان قد دخل القرية في سياق عملية عسكرية (الأرجح أنها لاعتقال بعض الفلسطينيين)، ولم يكن قد دخلها للسياحة أو لشراء بعض البضائع الصينية الرخيصة التي تنتشر في مناطق الضفة الغربية!! لسنا هنا في وارد إدانة أهل القرية، ليس فقط لأن ما فعلوه لم يكن نتاج قرار جماعي، والمؤكد أن من بينهم من تمنى قتل الجندي لو ملك الأداة المناسبة (كان الجندي مسلحاً بالطبع والأرجح أن أحداً في القرية لا يملك سلاحاً نارياً)، بل أيضاً لأن ما جرى هو نتاج سياسة شاملة أفضت إلى ثقافة جديدة في مناطق الضفة نشرها القادمون الجدد إلى سدة السلطة ومنظمة التحرير وحركة فتح بعد التخلص من ياسر عرفات، هم الذين كانوا أمعنوا في هجائه بسبب تأييده للمقاومة المسلحة في انتفاضة الأقصى (نذكر بأن من كانوا يهاجمون زعيم المرحلة الأخيرة ويعتبرونه "كرزاي فلسطين" الذي يُستخدم ضد الرئيس الرمز – ياسر عرفات-، هم أنفسهم الذين يغنّون له اليوم، فإذا لم تكن هذه هي الحزبية المقيتة فماذا تكون إذن؟!). في ضوء ثقافة البناء والتنمية و"البزنس" والاستثمار، وثقافة "التنسيق الأمني" (لاحظوا نعومة المصطلح)، وحيث تحول المقاومون إلى هدف للاعتقال والتعذيب إذا كانوا من حماس والجهاد، بينما أصبح زملاؤهم من حركة فتح موظفي درجة رابعة في مؤسسات السلطة (انخراطهم في جهاز الأمن ممنوع).. في ضوء مثل هذه الثقافة، كيف لنا أن نستغرب من أولئك الشبان أن يفعلوا ما فعلوا، مع العلم أنهم لو فعلوا غير ذلك لتحولوا إلى أهداف للعدو والشقيق في آن؟! لقد تعرض الفلسطينيون في الضفة الغربية لعملية إعادة تشكيل للوعي طوال السنوات السبع الأخيرة، إذ لم يجر تجريم العمل العسكري فقط، بل جرِّمت المقاومة بكل أشكالها واستهدفت بالكامل، باستثناء فعاليات شعبية محدودة يوم الجمعة ضد الجدار يتصدرها الناشطون الأجانب. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل أضيفت له ثقافة الدولة التي تتطلب حالة من الأمن والأمان والاستقرار المناسبة لأجواء "البزنس" والاستثمار، وتجاهل قضية الأرض المحتلة التي لا بد من المقاومة حتى يتم تحريرها، فيما تحولت حركة التحرير الوطني التي ينبغي أن تقود التحرير إلى حزب حاكم يعقد مؤتمره تحت الاحتلال وبتسهيلات منه. شعرنا بالغصة ونحن نقرأ الخبر الذي أكده أهالي القرية (حتى لا يخرج علينا من يقول إنه خبر مدسوس)، ليس فقط لأن هناك في سجون الاحتلال ثلاثة آلاف أسير نعلم أن الإفراج عن عدد من كبارهم لم يحدث إلا بصفقة تبادل مع جندي إسرائيلي أسير. بل أيضاً لأن الأرض لا تزال محتلة ويطاردها نتنياهو كما يطارد قدسها ومقدساتها بالاستيطان والتهويد، فيما لا يختلف اثنان على أن مشروع المفاوضات قد أثبت عبثيته، ليس لاستعادة فلسطين التي نعرف خريطتها جيداً، بل حتى لاستعادة الجزء المحتل عام 67 منها، مع تبادل للأراضي وتنازلات في القدس وشطب لقضية اللاجئين كما قالت لنا وثائق التفاوض التي لم يعد ينكرها أحد.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.