هناك مثقفون وناشطون سياسيون في أوطاننا العربية حصلوا على قدر من المصداقية بسبب انحيازهم لقضايا الأمة وشعوبها. حدث ذلك رغم أفول نجم الأيديولوجيا التي ينتمون إليها، تحديدا في الألفية الجديدة التي ساد فيها مد التدين في الشارع، ولم تعد تجمعات اليسار والقومية ذات وزن يذكر في الوعي الجمعي لجماهير الأمة، من دون أن يعني ذلك التناقض السافر معها، لاسيما شعار القومية في جوهره الرامي إلى إعلاء قيمة الأمة العربية ووحدتها ونهوضها. من خلال الفضائيات وفي مقدمتها الجزيرة، حاز عدد كبير من هؤلاء بعض الحضور السياسي، وصار لهم جمهور لا بأس به (الغريب أن الجزيرة اليوم باتت متآمرة عند بعض أولئك، وهي جزء من التحالف الغربي لتقويض أسس الممانعة والمقاومة في المنطقة)، ويبدو أن بعضهم قد صدقوا أن بوسعهم في ضوء ذلك الحضور أن يرسموا للأمة خياراتها ويحددوا لها مساراتها. يكتسب المثقف مصداقيته من الانحياز لهموم الجماهير، ومن الإيمان ببوصلتها الأقرب إلى الصواب في تحديد المواقف، ونعلم أن المثقفين هم الذين يُكثرون الحساب ويبيعون المواقف، بينما تحدد الأمة مواقفها دون الدخول في متاهات الأرباح والخسائر. وحين ينقلب المثقف على خيارات الجماهير لن يلبث أن يغدو منبوذا مهما كان حجم حضوره في السابق. لا ينبغي إغفال النظر إلى تداعيات الدولة القطرية التي فرضت في بعض الأحيان تناقضا بين المجموع العام للأمة، وبين شعب دولة بعينها. ولا ننسى أيضا ذلك التناقض المذهبي الذي تصاعد منذ احتلال العراق حتى الآن، لكن الموقف يبقى قائما من حيث حديثنا عن الوعي الجمعي للأمة، أعني موقف الغالبية من أبنائها، لأن الإجماع أمر صعب التحقق في معظم الأحوال. وفي حين وجدنا قطاعا من المثقفين يهمسون هنا وهناك تشكيكا في الثورات العربية عبر كلام فارغ عن دور أميركي أو أوروبي في إشعالها، فإن الموقف ما لبث أن أخذ يتفاعل بعد التدخل الغربي في الثورة الليبية، وبشكل أكثر وضوحا بعد الثورة في سوريا. لا خلاف على أن التدخل الغربي في الثورة الليبية كان مشكلة كبيرة أزعجت الكثيرين، بل أدخلت الجماهير العربية فيما يشبه التناقض بين رفضها الحاسم للتدخلات الغربية وقناعتها بالعداء الأميركي والغربي للأمة، وبين عدائها للعقيد معمر للقذافي وممارساته، وإيمانها بأنه رجل لم يعد يمت إلى العروبة والقومية بصلة (اتصالاته الأخيرة مع الكيان الصهيوني دليل على ذلك، وقبل ذلك ما قدمه من مواقف سياسية وما بذله من ثروات بلاده من أجل الحفاظ على نظامه). من الواضح أن جماهير الأمة قد حملت وزر التدخل الخارجي للعقيد القذافي، من دون أن تغير موقفها من القوى الغربية، لا سيما حين تأكدت أن التدخل لم يكن حاسما في إرادة إنهاء حكم العقيد لصالح الثوار، والنتيجة هي السكوت وعدم التفكير في رفض التدخل كما حصل في العراق على سبيل المثال. في سوريا برز تناقض أكبر، فهنا كان نظام له سجل مختلف عن نظام القذافي الذي باع كل شيء من أجل البقاء في السلطة، ومع ذلك لم تجد جماهير الأمة باستثناء نخب هنا وهناك، أن النظام أحرص على المقاومة والممانعة من الشعب السوري، وهي شاهدت بأم عينها كيف رد النظام بقتل الناس في الشوارع بينما هم يهتفون للحرية والكرامة ورفض الفساد. إنه الإيمان الفطري من طرف جماهير الأمة بأن الشعوب هي الأكثر حرصا على بوصلة الرفض والمقاومة من أي نظام مهما كان، بينما وَجد "شبيحة" المثقفين هنا وهناك أن النظام السوري مستهدف من قبل الغرب تبعا لخياراته السياسية، وأن ما يجري هو محض مؤامرة ينبغي التصدي لها بكل قوة وحزم. والحال أن موقف الغرب الأكثر وضوحا في سياق الثورات العربية هو ميله إلى وقف هذا المسلسل برمته (مع محاولة إجهاض الثورات التي نجحت كي لا تشكل نموذجا يحتذى)، وهو يلتقي في ذلك مع أكثر الأنظمة التي لم يشملها التغيير بعد. كما يخضع عمليا (أعني الغرب)، وهذا هو الأهم، لإرادة الكيان الصهيوني، ولم يحدث ذلك إلا لأنه يعرف موقف الشارع منه، تماما كما هو حال الصهاينة الذين يدركون أن اجتياح موجة الحرية والديمقراطية الوطن العربي، وتأكيد قدرة الناس على تغيير أي نظام لا يرضون عن ممارساته سيعني أن السياسة الداخلية والخارجية لن تكون في صالحهم بأي حال. لقد استمتع الغرب طيلة عقود بأنظمة تابعة، ومن قاوم منها أو مانع، بقي ضمن سقف معين، ولو كانت من النوع الذي يعبر عن إرادة الشعوب لكان المشهد مختلفا إلى حد كبير، ولو أراد الغرب إنهاء حكم العقيد لفعل ذلك خلال أيام، لكنه يطيل المعركة ويساوم الثوار أو المجلس الانتقالي من أجل تفريغ الثورة من مضمونها. في سياق التشكيك بالثورة والثوار تابعنا كيف استغلت زيارة السفيرين الأميركي والفرنسي لمدينة حماة، وقبلها مشاركة بعض السوريين في مؤتمر برنار ليفي في باريس لدعم الثورة السورية، وسمعنا قبل ذلك عن رسالة نقلها نفس الرجل من المجلس الانتقالي الليبي إلى نتنياهو، وللتذكير فقد كان موقفنا من كل ذلك واضحا لا لبس فيه. في المقابل وجدنا بعض المثقفين يغضون النظر عن كلام رامي مخلوف لصحيفة نيويورك تايمز الذي قايض من خلاله أمن نظامه بأمن الكيان الصهيوني، كما وجدناهم يغضون النظر عن وفود القذافي التي زارت تل أبيب لاستجداء الرضا الصهيوني (هناك رسائل واتصالات أخرى كثيرة)، فضلا عن استجداء الحوار مع ساركوزي "المتصهين". من السهل بالطبع التقاط الحوادث من هنا وهناك لتبرير موقف مسبق، لكن الصعب بل المستحيل هو التشكيك بهذه الشعوب وبوصلتها، إلى جانب التشكيك في قدرتها على إزاحة من يتناقضون مع مشاعرها ومواقفها إذا نجحت في التخلص من أنظمة جثمت على صدورها لعقود عبر تحالف السلطة والثروة والأمن بكل ما ينطوي عليه من بشاعة وقمع. كل ذلك بالطبع ينبغي أن تدركه قوى المعارضة قبل سواها، ذلك أن تقديم التنازلات للغرب، بخاصة فيما يتصل بالعلاقة مع دولة الاحتلال الصهيوني، من أجل الحصول على الاعتراف والدعم سيفقدها الشرعية الشعبية، وهي الأهم بكل المقاييس، من دون أن يجعلها مفضلة على الأنظمة في حال كانت الأخيرة قادرة على الصمود أمام المد الشعبي للاعتبارات التي ذكرناها آنفا. ولا شك أن هذا الكلام يخص القوى الإسلامية أكثر من سواها تبعا لكونها الأقوى في الشارع هذه الأيام.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.