تمرّ في مثل هذا اليوم العشرين من شهر نوفمبر/ كانون أول من كل عام ذكرى استشهاد أحد أعلام الجهاد في فلسطين، ورمز من رموز الأمة، إنه الشيخ المجاهد عز الدين القسام الذي لقي ربه عام 1935 بعد أن أبلى بلاء حسناً في ساعات الوغى ضد الاستعمار البريطاني.
ورغم مرور أكثر من 80 عاماً على ذكرى رحيل هذا الأسد الهصور إلا أن الله كرّمه بأن جعل من خلفه آلاف القساميين الذين أقسموا بالله أن يواصلوا طريق الجهاد والمقاومة رافعين لواء الحق ورايات الجهاد أمام الاحتلال الإسرائيلي الذي لا زال جاثماً على أرض الرسالات ومسرى النبي الأمين محمد عليه الصلاة والسلام.
المولد والنشأة
ولد الشيخ القسام في بلدة تسمى "جبلة" القريبة من اللاذقية في سوريا عام 1879 م، ودرس في كُتّابها القرآن الكريم والحديث الشريف وتعلم العربية والكتابة حتى صار عمره 14 عاما، ثم ذهب إلى الأزهر ليدرس العلوم الشرعية كما جرت عليه العادة في ذلك الوقت ومكث في مصر 9 سنوات ينهل من العلم ويتعرف على أحوال المسلمين هناك، ثم ليعود بعدها إلى بلاده سوريا ويبدأ بمهنة التدريس للصغار في الصباح وللكبار في المساء، فكان رحمه الله يواصل ليله بنهاره من أجل التعليم والتربية.
وخلال تلك الفترة كان الاستعمار الإيطالي ينهش في جسد الأمة الليبية -التي تخلد حتى الآن شيخها عمر المختار كأحد أعلام الجهاد في العالم العربي- وكان لا بد للقسام من دور وهو الذي نشأ وترعرع على حب الجهاد والاستشهاد، فكان يخطب في الناس ويبين لهم سوءة الاستعمار، وكان يقود المظاهرات بنفسه، حتى أنه قد روي عنه أنه باع بيته في جبلة واشترى بثمنه السلاح والعتاد ليدعم إخوانه المجاهدين في ليبيا.
وحين اشتعلت الثورة في سوريا ضد الغزاة الفرنسيين، رفع "القسام" راية المقاومة ضدهم في الساحل الشمالي لسوريا، وكان في طليعة من حملوا السلاح، وهو الأمر الذي جعل الفرنسيون يدركون خطره منذ البداية، فحاولوا استدراجه عن طريق إرسال وفد يفاوضه ويعرض عليه المال والمنصب، لكن هيهات لمن باع نفسه لله أن ينخدع بمثل هذه الأمور الدنيوية الزائفة، فرفض ذلك بشدة، وبناء عليه تم الحكم عليه من الفرنسيين الذين كانوا ينهبون خيرات سوريا بالإعدام غيبيا لأنه كان متحصن بالجبال يعد العدة للجهاد.
ولما شعر القسام أن الخطر بدأ يداهمه، وأن الفرنسيين أخذوا يضيقون عليه الخناق للوصول إليه بأي وسيلة، تسلل إلى دمشق وقاومهم في معركة عنيفة مشهورة أطلق عليها "معركة ميثلون"، حيث حاول فيها أهل الشام الوقوف في وجه الفرنسيين، لكن العدة والعتاد كانت لصالح الفرنسيين المدججين بشتى أنواع الأسلحة.
انتقاله إلى فلسطين
وحين أدرك القسام أن سوريا سقطت وأن دمشق أصبحت بيد الفرنسيين، قرر الانتقال سراً إلى حيفا في فلسطين عام 1922، فهو الذي لا تقف أمامه حدود مصطنعة، وهو الذي كان يتبنى بيت الشعر الذي يقول "وأينما ذكر اسم الله في بلد ...عددت ذاك الحمى من صُلب أوطاني".
وفي فلسطين استطاع الشيخ عز الدين القسام كسب قلوب الناس بسرعة كبيرة، وأصبح خطيباً في مسجد "الاستقلال" وهو أكبر مساجد حيفا، حيث التف الناس حوله لما رأوا من أسلوب جديد في الخطابة، وأخذ القسام يعلمهم أصول دينهم ويزرع فيهم معاني الجهاد وحب الاستشهاد والذود عن الأوطان.
وإضافة إلى أثره الكبير في توعية الناس وإصلاح أحوالهم من خلال خطب الجمعة ودروس العلم في المساجد، فقد كان للقسام دور بارز في الاختلاط بالناس، حيث التحق بالمدرسة الإسلامية في حيفا، ثم بجمعية الشبان المسلمين هناك، وأصبح رئيساً لها عام 1926. وكان القسام في تلك الفترة يدعو إلى التحضير والاستعداد للقيام بالجهاد ضد الاستعمار البريطاني، ونشط في الدعوة العامة وسط جموع الفلاحين في المساجد الواقعة شمالي فلسطين.
مواقفه
كثيرة هي مواقف القسام التي تنم عن شخصية فذة، فمن ضمن مواقفه التي يسجلها التاريخ له أنه أشيع في إحدى المرات عام 1929 أن اليهود يريدون إحراق مسجد الاستقلال، فاقترح بعض الوجهاء أن يطلبوا المساعدة من الإنكليز، لكن الشيخ القسام رفض رفضا قاطعا وقال إن دمنا هو الذي يحمي المسلمين ويحمي مساجد المسلمين وليست دماء المحتلين.
وكذلك، فقد كان القسام يرفض بشدة أي حوار أو معاهدة مع الإنكليز وكان دائما يقول "من جرّب المجرّب فهو خائن" فقد جرّب بعض العرب الإنكليز ضد العثمانيين وكانت كل وعودهم كذبا، وفي إحدى خطبه، كان يخبىء سلاحا تحت ثيابه فرفعه و قال: "من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليقتن مثل هذا". وفي إحدى خطبه وجه حديثه للمصلين قائلاً: "هل أنتم مؤمنون؟ ويجيب نفسه لا، ثم يقول للناس إن كنتم مؤمنين فلا يقعدنّ أحد منكم بلا سلاح وجهاد".
كان يركّز على أن الإسراف في زخرفة المساجد حرام، و أن علينا أن نشتري سلاحا بدل أن نشتري الثريات الفاخرة. كان يصل إلى جميع الناس من خلال عمله كمأذون شرعي وكخطيب. وكان يختلف كثيرا مع الشيوخ لأنهم كانوا لا يهتمون سوى بأمور العبادة من صلاة وصوم بينما كان اليهود يخططون ويشترون الأراضي. فكان يرى أن لا فصل بين الدين والسياسة، وأمور السياسة كانت واضحة بعد أن نال اليهود وعد بلفور. كما كان في شجار مع المستعجلين من أبناء تنظيمه الذين يريدون الثورة في حين كان القسام يعدّ ويتريّث ليضرب في الوقت المناسب فلبث سنين وهو يعدّ للثورة.
الإعداد للثورة على المحتل
اتصف الشيخ "عِز الدين القسام" بقدرة فائقة على التنظيم واختيار الأعضاء، والقيادة وسبل الإمداد والتسليح، والعمل على ربط الجانب الجهادي بالجانب الاجتماعي، فكان يهتمُّ بتحسين أحوال الفقراء ومساعدتهم، ومكافحة الأُميَّة بينهم، وتعميق الوعي بينهم، وقد ساعده على ذلك عمله مدرسًا وخطيبًا وإمامًا ومأذونًا، الأمر الذي هيَّأ له الاتصال بالجماهير واختيار من يصلح منهم للعمل معه في مناهضة المحتل.
وعنى"القسام" بالتنظيم الدقيق للخلايا السرية التي أعدها لمجاهدة الإنجليز، فهناك الوحدات المتخصصة، مثل وحدة الدعوة إلى الثورة، ووحدة الاتصالات السياسية، ووحدة التدريب العسكري، ووحدة شراء السلاح، ووحدة التجسس على الأعداء، وكانت نفقات هذه المجموعات تعتمد على اشتراكات الأعضاء المؤمنين بالعمل ضد المحتل الغاصب.
بداية أعمال الجهاد
وبدأت عمليات الإعداد تُؤْتي ثمارها، فشهدت المنطقة أعمالاً بُطولية عظيمة، وشهدت في أوائل سنة 1935 جنين ونابلس وطولكرم سيلاً من عمليات صيد الضباط الإنجليز، ونسف القطارات والهجوم على معسكرات الجيش البريطاني، وقتلِ المتعاونين مع الإنجليز، وكانت هذه العمليات تتم في جنح الظلام، وفي فترات متعاقبة غاية في الدقة والتنظيم والسرية، الأمر الذي أقلق القوات الإنجليزية، وبث في قلوبهم الفزع والرعب، وكان من أثر ذلك أن سرت روح الحماسة بين الناس، وقويت فكرة الجهاد بعد أن ازداد أعداد اليهود المهاجرين إلى فلسطين، ومحاباة السلطات البريطانية لهم، ومساعدتهم على التمكين والاستمرار.
"القسام" يعلن الثورة
ولم يخفَ على الإنجليز ما يقوم به "القسام" من إعداد الرجال للجهاد المقدس، وأنه ليس بعيدًا عن الأحداث التي بدأت البلاد تشهدها، فراقبت تحركاته وضيَّقت عليه، فلم يجد "القسام" بُدًا من إعلان الثورة على المحتل، وأن يكون هو على رأس المجاهدين فاتفق مع أحد عشر مجاهدًا على الخروج إلى أحراش (يعبد) في جنين، وأعلنوا الثورة على الإنجليز، والاستعداد للعمل الجهادي، وتشجيع أهالي المناطق المجاورة على الثورة.
لكن سلطات الإنجليز كشفت أمر "القسام" وعرفت مكانه من جواسيسها، فسارعت إلى قمع الثورة قبل اتساع نطاقها، فأرسلت في 15 نوفمبر 1935 قوات عسكرية ووقعت معارك عنيفة بين المجاهدين والإنجليز استمرت أيامًا تكبد فيها الأعداء خسائر فادحة في الأرواح، وفوجئ "القسام" ومن معه بأن القوات الإنجليزية تُحاصرهم في 19 نوفمبر 1935 وتقطع سبل الاتصال بينهم وبين القرى المجاورة.
استشهاد "القسام"
ولم يكن أمام "القسام" ورجاله سوى ثلاثة خيارات، إما الاستسلام المهين أو الفرار استعدادًا لمواجهة أخرى، أو التصدِّي للعدو مهما كانت التضحيات وعدم التكافؤ، واختار "القسام" ومن معه الدخول في معركة ولو كانت غير متكافئة، ودارت معركة رهيبة لمدة ست ساعات بين النفر المؤمن والقوات المحتلة، قُتِل فيها من الإنجليز أكثر من 15 مغتصبا، واستشهد الشيخ "القسام" مع اثنين من رفاقه في 20 نوفمبر 1935 واعتقل الأحياء- بما فيهم المجروحون- وقُدِّموا للمحاكمة التي حكمت عليهم بالسجن لمدة تتراوح بين عامين وخمسة عشر عامًا.
وقد أصاب الحادث فلسطين كلها بالألم والحزن، وخرج أهالي (حيفا) ووفود من مختلف أنحاء البلاد يشيعون جنازة الشهداء المهيبة، وتحول "القسام" إلى رمز للجهاد والنضال، وصارت تجدد في النفوس معنى التضحية والاعتزاز بالبطولة، وقد أطلقت حركة (حماس) اسمه على جناحه العسكري باسم " كتائب الشهيد عز الدين القسام " التي تواجه المحتل الإسرائيلي بعملياتها الاستشهادية، كما أطلق على الصواريخ التي تطلقها كتائب القسام على المستوطنات الإسرائيلية.