(1)
في خطوة لم تكن مفاجئة ذهب الاحتلال إلى اتخاذ قرارٍ وزاري في مجلسه الوزاري المصغر بـ"حل الحركة الإسلامية- جناح الشمال"، التي يتزعمها الشيخ رائد صلاح.
جاء هذا القرار المتعجل ذو الطابع السياسي مجافيًا لتوصيات جهاز الأمن العام الصهيوني (شاباك)، الذي لم يجد داعيًا أمنيًّا لهذه الخطوة التي من الممكن أن تدفع باتجاهات خطرة؛ لما تتمتع به الحركة الإسلامية من ثقل جماهيري كبير.
أجل هي كذلك الحركة الإسلامية في الداخل المحتل (أراضي الـ48) كبيرة وعميقة ومتعززة؛ بفعل تعبيرها الصادق عن روح الهوية العربية الإسلامية في أوساط الشعب الفلسطيني المتجذر في أرضه المحتلة، التي قام عليها كيان غاصب متحزم بأسلحة الدمار الشامل.
(2)
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا اتخذت حكومة الاحتلال هذا القرار (حظر الحركة الإسلامية) بتعجل واضح، مع تحذيرات المستوي الأمني الصهيوني داخل دولة الكيان من تبعاته؟
لم يكن الجواب من المتيسر قبل أن يكشف بالتصريح دون التلميح زعيم الحركة الشيخ رائد صلاح ونائبه الشيخ كمال الخطيب ذلك في محافل عدة، نظمت بعد قرار الحظر في الأوساط الفلسطينية في الداخل (48)؛ أن هذا التوجه إلى حظر الحركة الإسلامية قد رتب في ثنايا الحراك الدبلوماسي الذي تقوده الإدارة الأمريكية عقب انطلاق شرارة انتفاضة القدس، وبدأ بمجيء وزير الخارجية الأمريكي (جون كيري) في جولته المشؤومة إلى المنطقة، واجتماعه إلى مسؤولين عرب ورئيس وزراء الاحتلال (بنيامين نتنياهو).
وقد نتج عن اللقاءات التي لم يتغيب عنها رئيس السلطة محمود عباس ما عُرف في الأوساط الإعلامية بـ"اتفاق الكاميرات" أو "تفاهمات كيري"، الذي منح فيه من لا يملك (الضمير المستتر في محل رفع نائب فاعل) من لا يستحق (الاحتلال) السيادة على المسجد الأقصى؛ بإعطائه أحقية أن يأذن لمن يشاء ويمنع من يريد، وإقرار الوضع في المسجد الأقصى بالبقاء على ما هو عليه، وأن للمسلمين العبادة، ولليهود الزيارة.
(3)
لكن، ما شأن الحركة الإسلامية وهي ليست طرفًا كي يتواطأ المُؤتمرون جميعًا؛ ليحظرها الاحتلال ويخرجها عن دائرة العمل، وفق قانونه المنظم للأحزاب في دولة كيانه؟، وقد تغنى زعماؤه بأن دولتهم واحة الديمقراطية في صحراء قاحلة من الديكتاتوريات العربية، هذا ما يزعمه الرئيس السابق لدولة الاحتلال (شمعون بيرس) في كتابه الشرق الأوسط الجديد ولا يزال غيره يتغنى بذلك الإفك المبين.
نعم، الحركة الإسلامية بقيادة شيخ الأقصى رائد صلاح وإخوانه كانت هي الغائبة الحاضرة في هذا اللقاءات المنفردة التي عقدت في عاصمة عربية، وقد جاءت مستعجلة بعد أن بدأت جذوة الثورة الفلسطينية في الاشتعال، وكانت القدس والمسجد الأقصى شرارتها الأولى.
ولكن، ليس ذلك بفعل التهويد المستمر من طرف حكومة الاحتلال الاستيطانية العنصرية، وفق ما تراه الإدارة الأمريكية المؤمنة بأحقية اليهود في المسجد الأقصى، الذي يُعبَّر عنه أصحاب الرؤية الصهيونية وأصدقاؤها في المنطقة بـ"جبل الهيكل".
بل كانت تقديرات هذه الجهات وأذرعها الأمنية أنَّ حالة التصدي لممارسات الاحتلال في المسجد الأقصى هي المسبب الفعلي للانتفاضة الثالثة، وأن الحركة الإسلامية ومؤسساتها صاحبة السبق في هذا الفعل.
كيف لا وهي من تدفع الشباب الفلسطينيين للرباط على مدار الساعة في المسجد الأقصى، وترسل المرابطات الباسلات كي يتصدين في قوة تحدٍّ أدهشت الجميع؟!
وهذا ما أشعل جذوة نار الحمية الإسلامية في الشعوب العربية والإسلامية الغارقة في دمائها، وهو أيضًا ما دفع الشباب الفلسطينيين المتحفزين كي ينتفضوا في وجه الغاصبين المحتلين، وقد أجدبت آماله بالتحرير في مسيرة وهم تبدد (أوسلو).
لهذا تواطأت أطراف عربية عدة دعت لاتخاذ قرار بحظر الحركة الإسلامية (ذكر ذلك في تصريح له نائب الحركة الإسلامية بجريدة الرسالة في عددها الأخير السيد كمال الخطيب)، الأمر الذي جعل الكرة في ملعب رئيس الوزراء الصهيوني (نتنياهو) فأقدم على هذه الخطوة متعجلًا، ولم يتوقف عند تحذيرات الجهة الأمنية المعنية لديه.
(4)
فعلًا؛ فإن الشيخ رائد صلاح ورفاقه هم من يتصدرون واجب الحماية والوصاية الحقيقية على المسجد الأقصى، وهذا من شأنه أن يوحد العرب والمسلمين نحو قبلتهم الأولى، وهو ما يحذر منه كل أرباب الدبابة الأجيرة قبل المحتل نفسه.
ولذلك، جاء كيري مهرولًا، وإن كان قبل أيام قليلة من مجيئه لم يأت رئيسه (باراك أوباما) على أي ذكر للقضية الفلسطينية، في خطابه الذي ألقاه من على منصة الأمم المتحدة.
فقد شغل خطابه بالنار التي أشعلها في عالمنا العربي، وجهازه الأمني العابر للأخلاق والقيم (C.I.A)، في حرب التصدي لنتائج ثورات الشعوب العربية المطالبة بالحرية والعيش بكرامة وعدالة اجتماعية، بما عُرف بالثورات المضادة التي أسندت بانقلابات العسكرية وأغرقت بجماعات خارجة عن السياق الإنساني، وقد انشغل صوريًّا في قتالها.
فهذا ليس جديدًا على جهاز أمني هدد مديره السابق (جورج تنت) في حضرة الرئيس الأمريكي الأسبق (بيل كلينتون) بكامب ديفيد أواخر 2000م الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الذي أنكر أن يكون لليهود هيكل في المسجد الأقصى، وقد استمرت حفرياتهم تحت المسجد الأقصى ثلاثة عقود في حينه، ولم يعثروا على شيء يثبت هذا الادعاء.
فانتفض (تنت) الذي لم يُطِق سماع ذلك موجهًا خطابه إلى رئيسه (كلينتون)، قائلًا: "نحن في بلادهم (وقد أشار إلى الراحل) من يُنصِّب الزعماء ويزيحهم".
عندها أدرك الراحل عرفات أنه ذاهب إلى ربه لا محالة، فقال كلماته المشهورة: "أنا أدعوكم إلى جنازتي، ولا أتنازل عن ذرة تراب من القدس الشريف"، نعم، اختار أن يكون شهيدًا.
وإنه قد شهد هذه الحادثة التي عُرضت في فيلم وثائقي بالصورة الحية عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير صائب عريقات، وبعد أعوام قليلة صدق عرفات فرحل شهيدًا، وباء (تنت) بجريرة قتله بالسم بأدوات مأجورة لن يغفر لها التاريخ ولن ترحمها الأجيال.
(5)
أما الشيخ رائد صلاح، ورفاقه في الحركة الإسلامية (جناح الشمال)، وكل فلسطينيي الداخل المحتل (48) فلم يكن وجودهم يومًا مرتهنًا بقانون، ولذلك إنه لن يخرجهم من ساحات العطاء والمواجهة قانون تصدره حكومة احتلال عنصرية، هم يواجهونه على مدار الساعة في معركة هوية الأرض والإنسان والحضارة والمقدسات والتاريخ والجغرافيا.
نعم، سيتجاوز الفلسطينيون في الداخل المحتل قرار حظر الحركة الإسلامية، وهم يواصلون صراعهم المفتوح بأدوات تتناسب جديًّا وظروفهم الراهنة في دولة لقيطة وظيفية عنصرية كولونيالية غارقة في تزييف الحقائق، قائمة على وعود باطلة أشرفت على استنفاذ كل دعائم وجودها الاستعماري.