أقدِّر أن زيارة كيري للمقاطعة في رام الله هي الأخيرة.. ويجمع الفلسطينيون الذين يتعاطون مع الأميركيين على أن الزيارة الأخيرة كانت الأسوأ، وبعضهم يرى أنها الأخطر.
لم تكن التوقعات عالية قبل الزيارة، إلا أن ما تم فيها كان مفاجئًا وصادمًا، وكانت صراحة السيد كيري قد وصلت إلى الحد الأقصى في إظهار العجز عن تقديم شيء يذكر سوى التبني الأكثر وضوحًا للموقف الإسرائيلي، والطلب من الفلسطينيين التكيف معها، وهذه المرة ليس من أجل عودة المفاوضات والذهاب إلى حل الدولتين، بل من أجل الحصول على بعض التسهيلات الهامشية، كإرخاء القبضة الحديدية قليلاً، وتقليل عدد الجنود على الحواجز، والسماح للفلسطينيين باستثمار محدود للمنطقة C مع بقاء اليد العليا فيها للإسرائيليين.
وبالإمكان القول، إن انقلابًا سياسيًا جسَّدته هذه الزيارة، حين صمت الأميركيون لدى سماعهم طلبًا إسرائيليًا غير مسبوق، وهو حتمية موافقة أميركا على الاستيطان الإسرائيلي مقابل التسهيلات آنفة الذكر، ما يعني سقوط مصطلح تجميد الاستيطان من التداولالأميركي، ولم يعد مستبعدًا أن يطرح موضوع الموافقة على الاستيطان كثمن مسبق لمجرد موافقة إسرائيل على الجلوس على طاولة المفاوضات، ويبدو أن الفلسطينيين سيدفعون ثمن ارتفاع سعر إسرائيل في الاستراتيجيات الإقليمية والدولية، فرضاها مطلوب بين يدي الانتخابات الأميركية الوشيكة، وإمكاناتها العسكرية مطلوبة للتحييد أو المشاركة في الأعمال العسكرية الحادة التي تجري في سوريا وحولها، ومعلوماتها الاستخبارية مطلوبة في كل مكان في زمن تصاعد العمليات التفجيرية في عواصم العالم، خصوصًا الأوروبية منها، ورجل من طراز نتنياهو لن يتواضع في تقويم حاجة المتصارعين والمتنافسين إلى خدمات إسرائيل، بل إنه يغالي في اعتصار طالبي هذه الخدمات حتى القطرة الأخيرة.
لقد تم ملء عربة نتنياهو بالوقود، ليس من خلال زيارة كيري وما تمخضت عنه من مواقف، بل من خلال اللقاء الذي تم في البيت الأبيض، والذي وصفه الوزير كيري بالحدث السياسي الذي ألغى كل التوترات السابقة بين الإدارة ونتنياهو وألقى بها وراء الظهر لمصلحة إغداق غير مسبوق على إسرائيل سياسيًا وماليًا وتسليحيًا.
الزيارة الأخيرة عنوانها في إسرائيل تغطية ودعم الجهود القاسية التي تقوم بها حكومة نتنياهو في القدس وباقي أرجاء الضفة، والضغط على الفلسطينيين لوقف ما وصفه بإرهابهم، إضافة إلى الموضوع الأهم في هذه الفترة وهو الوضع في سوريا الذي قد يكون هو بيت القصيد في هذه الزيارة.
ورغم الادعاء بعدم الاعتماد على السياسة الأميركية في الحصول على أي شيء من نتنياهو، فإن الصدمة كانت قاسية لفداحة التراجع الأميركي ولو لغويًا، ولأن الخيارات العملية في ظل الإغلاق الأميركي الجديد تبدو في غاية الصعوبة حد الاستحالة، فالإغلاق الأميركي يعني إغلاق باب محكمة الجنايات الدولية ومجلس الأمن، وحتى المبادرات الأوروبية.
قبل الزيارة الأخيرة ولقاء نتنياهو أوباما كانت الأبواب الأميركية مواربة بعض الشيء نحو هذه الخيارات، أما الآن فقد أغلقت تمامًا.
ماذا سيفعل الفلسطينيون بعد هذا الإغلاق والحصار السياسي المطبق؟ ليس أمامهم من خيار سوى الانكفاء على بيتهم الداخلي، لترميم الشروخات المستفحلة في أساساته وجدرانه، فهذا هو الممكن الذي يستطيعونه لعل شيئًا ما يحدث في وقت ما في المنطقة والعالم.