في سياق مقابلة مع صحيفة المصري اليوم، عاد الرئيس الفلسطيني إلى تكرار نظريته حول زيارة العرب والمسلمين للقدس، والتي لخصها في المقابلة بقوله "مجيء العرب للأراضي الفلسطينية لا يعنى التطبيع، لكن لدعمنا ورفع معنوياتنا. عندي محاضرة سأخاطب بها العالم كله متسائلاً: لماذا لا تأتون إلى القدس؟ وجودكم هناك ليس تطبيعاً بل دعماً لها، وعندما تأتون هنا فأنتم لا تزورون السجان بل تواسون السجين، فهل تتركونا وحدنا؟ للأسف نسمع فتوى تطالب بمنع زيارتنا: أنتم بهذه الطريقة تعزلوننا وتعزلون القدس". وكان الرئيس نفسه قد كرر ذات العبارات لدى استقباله وفداً من المهندسين الكويتيين قبل حوالي خمسة شهور. لا يكاد الجدل حول هذه القضية يتوقف حتى يعود من جديد بسبب تصريح من هنا أو هناك، أو موقف لهذا الطرف أو ذاك. وفي المرات السابقة توقفنا غير مرة أمام دعوات وجهها محمود الهباش، وزير الأوقاف في حكومة السلطة، للعرب من أجل زيارة القدس بدعوى دعم صمود أهلها والدفاع عن هويتها المستهدفة (لا يتوقف عن تكرار الدعوة). وفي مقابلته مع المهندسين الكويتيين تجاوز الرئيس زيارة القدس زيارة الأراضي الفلسطينية (مناطق السلطة بالطبع)، وتحدث عن تطبيع العلاقة مع الشعب الفلسطيني وليس مع الإسرائيليين. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل إن علاقات الأخوة بين الشعب الفلسطيني وأشقائه العرب في حاجة إلى تطبيع. هذه الكلمة تستخدم في سياق تحسين العلاقة بين عدوين، لكن جماهير الأمة لم تبخل طوال عقود بدعم الشعب الفلسطيني، وهي تعاملت بشكل جيد مع أبنائه الذين هجروا من أرضهم، وإذا تجاوزنا المواقف الرسمية التي تتفاوت من دون شك، فإن مواقف الجماهير كانت جيدة في العموم، ولعل الشعب الكويتي كان استثناءً عابراً بسبب الحساسيات التي ثارت بين أبنائه حيال الفلسطينيين على خلفية موقف القيادة الفلسطينية من الغزو العراقي، وهي حساسيات زالت تقريباً بحمد الله. أما دعم الصمود فلا ينبغي أن يمر من خلال مسارات تطبع العلاقة مع المحتل، ولا خلاف على أن سبل دعم الصمود كثيرة وكبير؛ ليس من بينها السفر للسياحة في القدس وتل أبيب وحيفا ويافا، وحتى لو كان "السياح" سيمضون بعض الوقت في الضفة الغربية، فإن علاقة جماهير الأمة مع فلسطين بوضعها الحالي ليست علاقة سياحة، ما ينسحب على العلاقة مع الشعب أيضاً. لو كانت السلطة هي التي تمنح حق العبور للأراضي المحتلة وليست سلطات الاحتلال لما كانت هناك أية مشكلة، بدليل أن أحداً لم يقل إن السفر إلى قطاع غزة في الوقت الراهن بعد سيطرة المصريين على المعبر نوع من التطبيع، لكن إذن السفر في الحالة التي يدعو إليها الرئيس ينبغي أن يصدر من سلطات الاحتلال عبر "تأشيرة دخول"، أو عبر إذن خاص تحصل عليه السلطة من الإسرائيليين (عبر مكاتب التنسيق الأمني)، تماما كما يحصل قادتها على بطاقات الفي آي بي. لا ننسى هنا حقيقة أن الدعوة إلى زيارة العرب للأراضي المحتلة هي في جوهرها دعوة لدعم الاقتصاد الإسرائيلي، لأن الأخير هو من سيستفيد منها في واقع الحال تبعاً لإمكاناته ولاتساع الرقعة الجغرافية التي يسيطر عليها (هو يسيطر عملياً على كل فلسطين باستثناء قطاع غزة من الداخل)، فضلاً عن جمالياتها (وجود البحر) والخدمات السياحية فيها. ومن يتوقع أن السائح العربي سيزور رام الله والقدس ويترك حيفا ويافا وتل أبيب واهم، بدليل أن الرحلات السياحية التي يعلن عنها لزيارة القدس لا تشمل سوى وقت قصير في المدينة تليه جولات أخرى في المدن المحتلة عام 48. ليس ذلك وحده هو ما يدفعنا لرفض هذه الدعوة، وإن حضر في سياق تقييم المصالح والمفاسد، فما يعنينا أكثر هو تطبيع العلاقة مع العدو، وتجاهل العلاقة العدائية معه كمحتل لهذه الأرض. ولنسأل القوم هنا، ترى لو كانت تلك الزيارات بالفعل شكلاً من أشكال دعم صمود للشعب الفلسطيني، هل كان العدو سيسمح بها؟! لا تسأل بعد ذلك عن الاختراقات الأمنية التي ستنشأ من جراء هذه السياحة، ونعلم أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تتمتع بقدرات رهيبة على الاختراق وتجنيد العملاء، وبذلك نفتح الباب على مصراعيه لاختراق العالم العربي برمته، وبالطبع بعد أن تحققت اختراقات رهيبة في المجتمع الفلسطيني طوال عقود. بقي القول إن هذه الدعوة من طرف الرئيس الفلسطيني إنما تستبطن إصراراً على التعامل مع السلطة ضمن واقع الدولة وطموحاتها، مع إصرار على تجاوز وجود الاحتلال (التنسيق الأمني معه دليل آخر على هذه الخط). أما الأهم فيتمثل في أن الدفاع عن القدس يكون بالمقاومة، وليس تركها نهباً للاستيطان والتهويد والتعويل على السياحة العربية والإسلامية التي تدعم مشروع الاحتلال أكثر من مشروع التحرير. وها هو الربيع العربي يبشر بخلاص قريب لكل فلسطين التي ستحتضن أهلها من عرب ومسلمين، هي التي كانت وستبقى لهم جميعاً وليس للفلسطينيين وحدهم.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.