في ثمانينات القَرْن الماضي بدأ في الولايات المتحدة قَرْعُ أجراسِ النَّذير إذا استمر الخَلل وفقدان التوازن والتكامل بين التكنولوجيا، والعلوم الإنسانية، وكان الدّرس البليغ الذي يشار إليه دائماً هو الاتحاد السوفييتي عندما كان في خَريفِه السّياسي، وذلك انسجاماً مع نظرية قديمة ومتجدّدة في التاريخ خُلاصتها أن مَنْ يُحَلّقون عالياً بجناح فولاذي على حساب جناح إنساني وثقافي أصابه الضُّمور لابدَّ أن تنتصر عليهم جاذبية الأرض، وَيُلاقوا مَصيراً كالذي انتهى إليه “ديدالوس” اليوناني عندما حلَّق بجناحين من شَمْع، وما إن أشْرَقت الشمس حتى أذابَتْهما وسقط الرجل الطائر مُضرّجاً بِدَمِهِ وبالشمع الذي ذاب على كتفيه . وكان الفرنسيون قد تَنَبّهوا قَبْل غيرهم من الأوروبيين، إلى مثل هذا التناغم أو التكامل بين الصناعة وعلومها والثقافة وفنونها . وقد أثير سجال واسع عن موازنة الثقافة قياساً إلى موازنة الدّفاع انتهى بأن أصبحت الثقافة منافساً قوياً للدّفاع، بدءاً من عَقْد المؤتمرات المتعاقبة لحماية اللغة الفرنسية التي رأى فيها الفرنسيون ما يشبه إمبراطورية بديلة تحت مظلة الفرانكفونية . وبالفعل كان أحَد أبْرز واضِعي المعَاجم الفرنسية وهو بواديفير قد أطلق على الفرانكفونية اسم الإمبراطورية، أما فلاسفة فرنسا وكتّابها بدءاً مما سمّاه جان بول سارتر “جمهورية الصّمت” في أربعينات القرن العشرين، فقد ألحّوا مراراً وبمختلف الأساليب، على ضرورة التّوازن بين الإنساني والعِلمي خصوصاً الصِّناعي، وأول ما اتجه إليه الألمان بعد خروجهم مُثْقَلين بأعباء هزيمة كبرى تسبّبت فيها النازية، هو الدور الثقافي داخل ألمانيا وخارجها، لهذا يُنسب إلى أحد المثقفين الألمان أنه قال إن أثقل صِناعة ألمانية هي الفلسفة . وهناك اشتباك ثقافي لم تَحْسِمه الحَرْب العالمية الثانية عن أصول بعض الفلاسفة والتيارات التي يمثلونها، ومنهم هوسرل وهيدغر ومَنْ وُلدوا في التُّخوم بين فرنسا وألمانيا كمنطقة الألزاس واللورين . والعالم العربي الذي أشيعت في كل أرجائه ثقافة عوراء عن اختزال التقدّم إلى بُعد واحد هو التّصْنيع سواء سميّ عسكرياً أو مَدنيّاً وخَدَمِياً، بدأ الآن يدرك أن كثيراً مما يعانيه من الخلل ناجمٌ عن إهمال البُعد المعرفي . فالسّلاح يصبح عبئاً أو عدواً لمالكه أو صانعه إذا لم يكن في أيدٍ يحركها وَعْي إنساني ووطني، وإهمال هذا البُعْد المعرفي أدى إلى غياب القواسم الوطنية المشتركة التي تُحَصِّن المُجتمعات من الانفجارات الإثنية والطائفية وتهدّدها بحروب أهلية تأتي على كل شيء . وثمّة تباين شديد أيضاً بين نَوْعَيْن من الثقافة، أحدهما متعلق بالبُنى الفَوْقية وما تشمله من نظم سياسية ومقاربات في فلسفة الحكم، والآخر متعلق بالبُنى التحتيّة، وهي التي تعرّضت في أكثر من بلد عربي إلى استهداف بالقصف والتدمير، بحيث تحوّلت في بعض البلدان إلى مجرد أطلال ولم يخطر ببال الكثيرين أن ما تعرضت له هذه البُنى التَّحتية، ألحق أضراراً كبيرة بالبُنى الفوقية . فالجامعات ومراكز الأبحاث وَبُؤَر النشاط السياسي والاجتماعي عانت تلك الأضرار، تماماً كما أن برامج التَّنْميَة أصابها الشَّلل، واضطُّر الناس بضغط من الحاجة إلى استبدال الأولويات نظرياً وميدانياً . وما نَعْنيه بثقافة البنْية التَّحتية ليس التفاصيل المِهنية، بل هو الحدّ الأدنى لإدْراك العلاقات بين ما يتم استهلاكه من منجزات التكنولوجيا . ما جدوى أن ينشغل ملايين البشر على مدار الساعة في سجالات سياسية ويكون كل شيء آخر في حياتهم مُؤَجَّلاً؟ فمن أخطر ما تفرزه ثقافة الاستهلاك والتّلقي فقط، إبطال مفعول الذات والتحوُّل من استهلاك السِّلع والمنجزات التكنولوجية إلى استهلاك الثقافة والأفكار رغم أنها وُلِدت في سياقات مختلفة .
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.