كشفت الأزمة الأخيرة بين مصر والولايات المتحدة بسبب قضية المنظمات غير الحكومية وإصرار مصر على تقديم مواطنين أمريكيين يعملون في هذه المنظمات إلى القضاء المصري الكثير من الأسئلة، ودفعت إلى السطح بشكل مفاجئ ملف العلاقات المصرية الأمريكية الحاكم لكل سياسات مصر الداخلية والخارجية. كما ألقت هذه الأزمة إلى الرأي العام بهذا الملف من زاوية المعونات الأمريكية لمصر، وهو ملف فتح مبكرًا وكان لابد أن يفتح في سياق سياسات مصر الجديدة في المجال الخارجي، وهو البوابة الرئيسية التي تؤثر تأثيرًا كبيرًا على كافة الملفات الداخلية.. ذلك أن استقلال مصر في علاقاتها الخارجية أو تبعيتها هو مركز الثقل في حياة مصر والمصريين. وبصرف النظر عما يحيط بقضية المنظمات غير الحكومية من اعتبارات فإن القضية الملحة الآن هي ترتيب العلاقات المصرية الأمريكية بشكل جذري، أو تسوية هذا الملف الطارئ إلى حين عبور مصر من المرحلة الانتقالية حتى تتفرغ لهذا الملف الخطير. ولا يمكن فهم موقف واشنطن من الثورة المصرية ودورها المزعوم فيها إلا بفهم الأسس التي قامت عليها العلاقات المصرية الأمريكية منذ 1979، وقد خلص الرئيس السادات إلى أن الولايات المتحدة هي التي تتحكم في (إسرائيل)، وأن معضلة مصر هي أساسًا مع (إسرائيل)، لذلك فإن تأمين مصر من (إسرائيل) وعدوانها المستمر عليها يقضي بأن تكون مصر و(إسرائيل) معًا في قبضة الولايات المتحدة، بل كان الرئيس السادات يحلم بأن يحل في قلب واشنطن محل (إسرائيل)، وهذا الحلم لا علاقة له بالواقع الذي لم يكن السادات قادرًا على استيعابه.. وقد ظن السادات أن قبول (إسرائيل) كما هي يمكن أن يرفع سبب التوتر بين العرب و(إسرائيل)، وكان هذا العامل من أهم أسباب التوتر النسبي بين العرب والولايات المتحدة، أي أن السادات كان يريد أن يفصل العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة. ترتب على ذلك أن مصر السادات قبلت الكثير من صور الوصاية على مصر، ولكن السادات كان يعتقد أن مصر مستقلة، وهى التي تقبل أو ترفض.. ويبدو أن طريقة السادات لم ترق لواشنطن وإسرائيل، أو أنه قدم كل ما لديه وأنهما بحاجة إلى بداية جديدة، فحدث الاغتيال وجاء مبارك مسلّمًا تمامًا بأن مصر تابعة للولايات المتحدة، يؤكد ذلك عشرات الشواهد في علاقات البلدين، مما لا يتسع له المقام. وتحولت مصر من تابع إلى جلاب للأتباع، ودفع الدول العربية جميعًا إلى الحظيرة الأمريكية، وهو يدرك أن إسرائيل تدخل حيث توجد للولايات المتحدة مصالح ووجود. ولذلك تطورت العلاقات المصرية الأمريكية، ووصلت إلى حد أن واشنطن جعلت علاقاتها بمصر مرهونة برضا (إسرائيل) عن علاقاتها بها.. وعندما طالبت ـ حين كنت مسئولًا في وزارة الخارجية ـ بضبط العلاقات اتهمت بأنني أخرج على الخط السياسي للدولة، وهو أمر كان يدعو حينها (في بداية الألفية الثالثة) إلى الدهشة، قبل أن تتأكد الصورة الحقيقية لشكل العلاقات في ذلك الوقت.. بعبارة أخرى، فقد أصبح الأصل في علاقة مصر بالولايات المتحدة هو علاقتها بإسرائيل، وهذه نقلة خطيرة، لأن العلاقات المصرية الأمريكية لم تعد علاقات ثنائية، وإنما أصبحت هذه العلاقات أحد متغيرات العلاقات المصرية الإسرائيلية، مما سمح بوصاية إسرائيلية كاملة على مصر، واختراق إسرائيلي كامل لمفاصل الدولة المصرية، حسبما أكد عاموس يالدين، مدير المخابرات العسكرية الإسرائيلية.. وكان استمرار هذا الوضع سببًا في تفاقمه وانتشار آثاره، وهو الذي دفع إلى قيام الثورة المصرية ضد مبارك؛ كنز إسرائيل الإستراتيجي.. ولما كانت مصر في عهد مبارك ترى العالم وترى نفسها بعيون أمريكية وإسرائيلية فقد عجبت لأبواق النظام السابق الذين لم يسلموا بانتهاء الدور الإقليمي الوطني لمصر، وتسخير مصر في أدوار تدعم المشروع الأمريكي الصهيوني في كل القضايا العربية وخاصة القضية الفلسطينية.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.