الحرب الباردة أنهكت الاتحاد السوفيتي وانتهت بتركيعه وتفكيكه إلى دول عديدة ، وأجبرت روسيا الوريثة الأكبر للاتحاد السوفيتي على أتباع سياسة واشنطن أحياناً في القضايا الدولية، وعلى القبول بالدول المحيطة بها والمستقلة عنها إذا ما تقاربت مع واشنطن والسير في فلك سياستها. الحرب الباردة تغذيها استراتيجيات وغايات كبرى، ومنها إعادة رسم خريطة المنطقة ، وقد تحققت هذه الغاية في منطقة الاتحاد السوفيتي بعد عقود من الصراع ، وأحسب أنه ثمة (حرب باردة جديدة) تتشكل الآن في منطقة الشرق الأوسط بأيدٍ (صهيونية ـ وأمريكية) بهدف إعادة رسم خريطة المنطقة ، وحل المشكلة الفلسطينية خارج إطار ما يسمى بـ (إسرائيل). الحرب الباردة في منطقة الشرق الأوسط ، أو قل الشرق العربي الإسلامي بدأت وهي تتطور ، وتتسارع في خطواتها عاماً بعد عام ، ويبدو أن ملمحها الأول قد انبثق من قاعدة مذهبية (شيعية ـ سنية) ، وهي قاعدة تقليدية موروثة، تتغذى بعداوات قديمة ، وثارات جديدة ، وتتداخل فيها الجغرافيا السياسية والمذهبية في (العراق ، وسوريا ، وإيران ، والبحرين ، والكويت ، والمنطقة الشرقية من السعودية ، ولبنان). وتقوم على هذه القاعدة المتفجرة فضائيات متعددة تبحث في الخلافات القديمة الجديدة أكثر مما تبحث في آفاق التعاون والتفاهم. ومن المؤسف أن قادة محترمين من العلماء أصحاب الحظوة الشعبية يساهمون في هذه المعركة المذهبية التي هي جزء رئيس من الحرب الباردة البديلة التي تسعى أمريكا و(إسرائيل) إلى تفجيرها في منطقة الشرق الإسلامي. ما يقوله العلماء في الفقه صحيح ولا جدال فيه ، والخلاف فيه موروث، وتأثيراته القديمة كانت سالبة على الأمة ، وإيقاد نيرانه الآن لأدنى الأسباب هو أكثر إساءة إلى الأمة الآن من ذي قبل ، بحكم الاستراتيجية (الصهيونية ـ الأمريكية) التي تغذيه وتمده بالوقود اللازم ، ولو أدرك الشرق الإسلامي وقادته معنى العافية في عالمهم لسعوا معاً لإيجاد حل مشترك يخرجهم من أتون حرب باردة ، وحرب قادمة. إنه إذا كانت (المذهبية)هي الملمح الأول لهذه الحرب الباردة ، فإن عامل القوة والتسلح ، والمعركة الإعلامية، وتعزيز الوجود خارج الحدود ، من خلال الاتباع والأحزاب ، هو الملمح الثاني لهذه المعركة ، ومن أسف أن تزايد التسلح في إيران والخليج وارتفاع لغة التهديد المتبادل يقلق الخليج كله ومن خلف الخليج أهل السنة ، الأمر الذي يلزمهم كأطراف مراجعة مواقفهم وحل مشاكلهم ، وإقامة التسلح على قاعدة دفاعية ، لا تهديدية للآخرين ، ورفع الاحتقان في العراق وفي المناطق الأخرى المذكورة آنفاً ، والتفرغ الحقيقي للصراع مع المحتل الصهيوني ، والاستكبار الأمريكي ، وإفشال استراتيجية الحرب الباردة التي أعدت لحرق أطراف . الحرب الباردة في الشرق العربي الإسلامي بدأت ، وإذا لم تتوقف عاجلاً ، فهي لن تتوقف آجلاً ، حتى تستكمل غاياتها ، وإعادة رسم جغرافيته بما يخدم (إسرائيل) في المنطقة والإبقاء عليها السيدة الأقوى. في العالم العربي عودة حميدة للروح الإسلامية القائدة للمجتمعات وللحكومات ، ولكن هذه العودة تواجه رفضاً غربياً وصهيونياً ،ومن ثم تعمل هذه القوى الاستعمارية على احتوائها وإذهاب بريقها ، أو الالتقاء بها في واجهة المشاكل وإدخالها إلى أتون الحرب الباردة التي بدأت في منطقة الشرق الإسلامي رغماً عنها ، بجرها إليها جراً قبل أن ترتب أولوياتها. الحل لهذه المعضلة تمتلكه إيران وحدها في هذه المرحلة ويقوم على قاعدة إحباط استراتيجية الحرب الباردة ، وتهدئة الأزمات ، وحسن استقبال العودة الحميدة للإسلاميين في العواصم العربية ، ومقاربة المشاكل القديمة مع الجيران بحلول مقبولة لا غالب ولا مغلوب ، وتوجيه الصراع نحو تحرير فلسطين . فلسطين أولاً ، وقبل كل شيء .
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.