لكلّ واحد منهم قصة مختلفة، ثريّة المعاني، حافلة بالسموّ، وجديرة بأن تُحفظ في سجلات التاريخ الذهبية ووعي الأجيال المعاصرة لهم والقادمة.. إنهم مجاهدو وشهداء هذه الانتفاضة، التي ما زالت تحتفظ ببصمة خاصة لها، ميّزت يومياتها وفعلها وأبطالها، حتى بدا أن المشهد برمّته غير مسبوق، ويصعب تنميطه أو توقّع مآلاته أو نقلاته التالية.
هي فردية نعم، لكن أبطالها يمثّلون النخبة في المجتمع؛ نخبة الفصائل ونخبة غير المنظّمين، ونخبة الرجال والفتيان، ونخبة المستويات المختلفة في المجتمع، فما كلّ منتظم في فصيل يحمل استعداداً وعزماً للتضحية، ولا كلّ غير مؤطّر يكترث بنداء الواجب ويعي مسؤوليته الفردية تجاه وطنه المحتل، ولذلك فقد انتظم في عقد هذه الانتفاضة حبّات ياقوت فريدة، يومَ أن ضنّت غالبية الناس بأعمارها ودمائها، اعتقاداً منها بأنه لا سبيل للتحرر من قيد اللحظة المرهقة، وغير المعينة على التغيير.
كان (نشأت ملحم) آخر تلك النماذج المتفرّدة، وقد حاز فعله تعاطفاً وإكباراً كبيرين، ليس فقط لأنه من فلسطينيي الداخل المحتل الذي نادراً ما أقدم بنوه على تنفيذ عمليات عسكرية مباشرة، بل كذلك لأنه جعل كل أجهزة الأمن الصهيونية في حالة استنفار وبحث على مدار أسبوع، بعد أن نفّذ عمليته في قلب (تل أبيب) وفي مكان عام، فكان نشأت يمثّل ذلك البطل المنتظر الذي يواسي به الناس عجزهم، ويحمل إليهم البشرى بأن القادم ما زال يكتنز كثيراً من المفاجآت، رغم تراكم الظلام في أوردة الحلم بالغد.
لكن نشأت ملحم لم يكن الوحيد، فهنالك مهند حلبي وبلال غانم وإياد العواودة وإبراهيم سكافي ورائد مسالمة ومحمد الحروب وشادي مطاوع ومحمد علي وإيهاب وعبدالرحمن مسودة، وغيرهم كثيرون ممّن رصّعوا قائمة العزّ بدرر لا تُحصى من المعاني الجليلة، التي ستظّل ملهمة لمن عايشوا هؤلاء الأبطال أو سمعوا عنهم، أو تناقلوا قصصهم وأَسَرتهم تجلياتها العظيمة ومكنونات تفاصيلها.
هذه النماذج هي طليعة فلسطين الحقيقية في هذه المرحلة، وهي مرحلة تزهد في الكلام والتنظير، وفي كل فعل لا تتضمنّه تضحية، لأن من حمل راية الإقدام في الزمن الصعب يستحقّ أن يكون رائدها، وليس فقط مادة للافتخار، ولأن من تقلّد نيشان العزيمة سيظلّ حجة على من تراجع ونكص وانسحب، أو اكتفى بأن يكون على هامش الفعل والإنجاز، معلّقاً أو منتقدا.
لا يتوقف دور هؤلاء الأبطال الاستثنائيين عند حدود جلب الأمل وشفاء صدور المكلومين، ولا عند مجاهدة المحتل بما تيسّر من وسائل، بل إنهم ينثرون في كل أرض يخرجون منها بذور ثورة وتفرّد وإقدام، ويستحثّون طاقات المتأثّرين بهم، ويضعونهم في مواجهة مباشرة مع حقيقة المسارات المجدية. وكما أنهم كانوا متفرّدين في فرديّتهم وقرارهم وفعلهم، فهم كذلك متفرّدون في تأثيرهم في الوعي، وفي دورهم في محاصرة الأوهام وإبطال سحرها وتسخيف حمَلَتها أو المنظّرين لها.