25.52°القدس
25.06°رام الله
25.53°الخليل
25.72°غزة
25.52° القدس
رام الله25.06°
الخليل25.53°
غزة25.72°
الثلاثاء 15 أكتوبر 2024
4.92جنيه إسترليني
5.32دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.11يورو
3.77دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.92
دينار أردني5.32
جنيه مصري0.08
يورو4.11
دولار أمريكي3.77

نزور أرواح غزة ونعانق غائبيها!

565777
565777
غزة - محمد أبو حية

تعودت أن أرتدي أجمل الثياب عند الخروج من البيت؛ فهكذا تحب أن تراني أمي. أتعطر بعطر خفيف لا يزعج هدوء أنفاسها؛ فإني مقبلها قبل الخروج وعند الإياب.

تسألني دائما أين المسير؟ ومتى الرجوع؟ وكم سأقضي في الغياب؟ أجيبها بالحقيقة وأرسم لها خطاي على خريطة نسجتها من حرير معلقة بغرفتها؛ لأبقى أمام عينها طوال اليوم.

أضطر أحيانًا أن أجيب أمي بخبث عجوز يحمل لغمًا في سلة قش، يمر به على حاجز للعدو، كي يسلمه لمقاتل تمترس على ثغر المخيم؛ وكم يبدو حينها حذرًا كتومًا ، وغيرَ مبالٍ إلى حد كبير!

أنا منذ صغري لا أحب إزعاجها بأنباء الراحلين والغائبين في غزة؛ لأن دمعها قريب، ولا أطيق رؤيته ينهمر! فأراوغ بإجابة أسئلتها، وأخفي ما أحمله كذاك العجوز.

طبعت على جبينها قبلة، واستأذنتها بالخروج في زيارة، وذهبت من أمامها بسرعة غارة؛ لأني سأعترف بكل شيء إن قالت: ضع "عينك في عيني"!

وأنا أركض خارج البيت، سمعت ضحكة أمي من حركاتي البهلوانية لإشغالها، وسيلًا من الدعاء والرجاء بأن يحفظني رب السماء.

وصلت مقبرة المخيم، ألقيت التحية على الراحلين، وتمتمت بآيات من القرآن، وبدأت أعانق روح صديق هنا وحبيب هناك.

جلست عند رأس صديقي الذي رحل في حرب غزة الثالثة، وأخبرته أن العدو اعترف بقتله بقذيفة زورق عندما أطل برأسه من فتحة الخندق. طار صمت القبور، وحط بعيدًا؛ فأخبرني محمد أنه حي يرزق!

فرحت كطفل تناول الحلوى بعد اشتياق! ومشيت على رؤوس أصابعي؛ حتى لا أزعجه برحيلي، رغم أنه أفجعني برحيله؛ فالحرص على المشاعر من صفات العاشقين.

ذهبتُ - ساعةَ المغيب - شرق المخيم نحو سيدة تجلس قرب منزلها المتصدع شوقا لغائب سافر ولم يعد.

اقتربت منها؛ فإذا بها تنظر نحو الجنوب، ودموعها كشلال متدفق ينحت في وجهها طريقين تخفيهما بطرحتها.

سلكت أحد الطرق؛ فوصلت قلبها، أخبرتني بقصة ثلاثةٍ ابنُها رابعُهم، وهو وحيدها، وعمود البيت الذي أوشك على الانهيار.

أخبرتها أنه لا داعي للقلق؛ فنجلها في ضيافة "النيل"! وسرعان ما عاتبت نفسي، فأي ضيافة يرغم عليها المرء تحت تهديد السلاح؟ وأي ضيافة تستمر خمسة أشهر؟ وأي ضيافة تكون عند مضيف مجهول؟!

السيدة يطعنها الحنين لعناق حبيبها في المساء؛ فتنزف حتى الصباح! وهذا حالها منذ الغياب! أمسكت يدي عندما انتصبت للرحيل، وطلبت أن أبقى قليلًا؛ ففي وجهي من ابنها الشيء الكثير!

نزلت عند رغبتها بالجلوس، لكني رددت أمانتها الثقيلة باستقصاء أخبار الغائبين الحاضرين؛ فأنا ضعيف البنية السياسة والأمنية، ولا أقوى على حمل أمانتها فتأديتها!

في طريق العودة للبيت، رأيت شهيدا يزف، وبعلم يلف، وهذا حال الشهداء الذين يطيرون أسرابا في وطني، منذ نكبتنا، فنكستنا، فانتفاضتنا، فحصارنا، فحروبنا الثلاث.

سألت طفلة تقف في الجوار: من قتله؟ قالت: شقيق له! قلت: فيم قتله؟! قالت: ذهب يطلب حقه! قلت: هل شكّل خطرًا؟ قالت: كان عاريًا؛ فرموه بالرصاص؛ فأسدل الموج ستاره على جثمانه، ليستر عورته! قذفه البحر ؛ فانتشله أربعة، كأي شيء.. إلا كإنسان! والمشهد موثق!

بدت الطفلة كزهرة ذابلة، وهي تسمع صرخات المحبين وعويلهم، وهم يلقون نظرة ما قبل الغياب على الجثمان المحرر، بعد احتجاز لأيام!

مسحت على شعرها، وأغلقت أذنيها بكلتا كفتي، حتى لا يمزق قلبها الصغير صوت النحيب على من قتل غدرًا بيد شقيقه.. ابن "عروبته ودمه"!

عدت إلى البيت مسرعا، وتسللت إلى حجرتي حتى لا تراني أمي؛ فأضطر لتقبيلها بفتور، وتسحب من فمي ما يثقلني من أوجاع علقت في جسدي، بعد تجولي في وطن المآسي؛ فتنهار.

قررت النوم، حتى لا أشعر بألم الفراق، وطعنات الغياب، وخيبة الغدر، ومرارة الفشل في منع سهم حزن من اختراق قلب طفلة؛ فإن قلوب الأطفال يصعب مسح أوجاع نقشت على جدرانها!