أقر وأعترف أنه بعد عشرين سنة من الحصول على الرخصة أني أتقن التعامل مع الحجرة الداخلية للسيارة أما خارجها ودواخلها الدقيقة وما تحت الغطاء فلو درسوني اياها مائة مرة فسيكون حالي كما وصف المثل «علم في المتبلم يصبح ناسي!» فببساطة عالم ميكانيك السيارة لا أفهمه ولا يستهويني.
الا أن هذا الموقف السلبي لا ينفعني عندما يقف ذلك الجماد المسمى بالسيارة، مهما كبرت او صغرت ومهما حاولت تحسين مواصفاتها، كالميت «لا من ثمها ولا كمها»! والأدهى عندما تتضافر الظروف لتحرجك مزيدا وتضطرك الى ضرورة معالجة الموقف سريعا دون تأجيل او انتظار!
واجهت، كما يحصل مع الكثيرات عطلا في سيارتي وتبينت انه من البطارية التي قررت ان تنام فجأة دون استئذان، ولم ألجأ الى الاستعانة بصديق من أولها بل جربت كل ما اعرفه من خبرة عشرين سنة من محاولة تشغيل واقفال وضغط على دواسة البنزين حتى أصدرت صوتا كزئير الأسد معترضة على معالجاتي الفاشلة فكان لا بد أن أعطي الخبز لخبازه، ولكن أين أجد من يساعدني في شارع فرعي بعد المغرب، ومع أني أخذت للأمر عدته وكان بحوزتي كيبلات الشحن ولكن لم أجد من يساعدني على شحن «القتيلة» ومرت عني سيارات كثيرة مع أن «مأساتي» ظاهرة للعيان دون أدنى مبالاة أو توقف للاستطلاع مع أننا على الأغلب فضوليون، ولكن ذاك الموقف يصح وصفه «على دور الحزينة سكرت المدينة»! وبقي الحال على ما هو عليه حتى عثرت على تاكسي استجاب صاحبه بكل صدر رحب وركب العدة على السيارتين وما هي الا ضربتين حتى عادت الروح الى كومة الحديد خاصتي وخرجت أنا من قاع بئر اليأس، وبعد ان شكرت السائق بامتنان أخرجت مبلغا من المال لقاء تعبه وعمله وتعطله عن شغله فما كان منه الا أن قال لي «لا يختي أنا عندي خوات بسوقو» ورحل سريعا وانا ما زلت أتمتم بعبارات الشكر!
«عندي خوات بسوقو» وفي ذلك الموقف كان هذه العبارة من سحر البيان الذي غلب كل ما أعرفه من جمال القصيد والبلاغة فلئن كان الشعراء يتقنون التنظير فذاك الشاب يتقن الفعل في أجمل صوره!
أي تربية تلقاها سائق التاكسي هذا فأخرجت منه هذا المنطق والخلق؟! أي أب له كان بارا بمحارمه فمشى هذا الشاب على خطاه؟! أم أي أم ظلت توصيه «يما دير بالك عخواتك ترى اللي بتزرعه بره مع بنات الناس بحصدوه خواتك»؟! لا بد أنه كان صاحب خلق متكامل فمثل هذه الشهامة والنخوة والتقوى ووزن الامور مع بعضها لا تأتي عفو الخاطر وانما هي تربية سنين وتدريب وتطبيق متواتر.
«عندي خوات بسوقو» وتذكرت تلك الجهالة المجتمعية التي تصنف الناس حسب مهنهم وحالتهم المادية فنجد من يقول في موقع الذم والقدح «أخلاق شوفيريه» وكأنه ينسب اليهم كل ذميم وسيء تعميما خاطئا عن غير بينة او تجربة!
هذا السواق او الشوفير كان لديه من الخلق والتقوى والفضيلة والضمير ما يعجز كثير من أصحاب المال والسلطان والجاه والدرجات العلمية الذين كلما زادوا في الدرجات بغير خلق زادت قصصهم اللاأخلاقية وتجاوزاتهم! لو أن منطق هذا السائق عمم على الناس لما وجدنا مظلمة لامرأة أمام محكمة إلهية أو أرضية!
«عندي خوات بسوقو» وتأكدت من خلالها أن الرجل ومبادرته أساسية في صلاح حياة المرأة وأن حسن البذل لا بد أن ينتج حسن تقدير من الطرف الآخر وان الاستثمار البعيد المدى مع الله بالاحسان لعباد الله هو الضمانة لحياة طيبة، فالله أولى برد المعروف الذي يبذل في جنابه.
«عندي خوات بسوقو» ظلت تعزف كأجمل لحن في رأسي طول الطريق ولولا أني أعرف طريق البيت فطريا لتهت كما يتوه صوفي مسه ولع!
ويحدثونك في الأساطير عن الفارس الذي يظهر فجأة على الحصان الأبيض لينقذ الموقف بشجاعة ثم يختفي كما ظهر فتظنه خزعبلات ثم يشاء القدر ان يعلمك ان في كل قصة خيط من حقيقة يصل الى عالم الواقع.
في عالم بلغت فيه نذالة الرجال حدا غير مسبوق اصبحت مواقف الشهامة الصغيرة فتحا مبينا، فشكرا من القلب لا شكرا من الـ»فيه» لمن يذكروننا بها وبأنها لم تنقرض بعد!
أما ذلك السائق فأدعو له بدعاء جدتي الجميل «الله ينشلك من كل ضيق ويجعللك في كل طريق ومقعد صديق».