هناك في مكان بعيد شمال قطاع غزة وتحديدا في المنطقة الصناعية في أطراف مدينة بيت حانون الجنوبية عنوان للإرادة الفلسطينية وتحدٍ وقهرٌ لكل الظروف والحصار، في مكان يبدو من بعيد متواضعا في شكله الخارجي؛ ولكنه عملاق في أدائه وما يقدمه من قيمة ورسالة عالية المضمون تقول: (أنا الفلسطيني هكذا يجب أن أكون) صامدا صابرا مثابرا متحديا قاهرة لكل المعيقات ولكل أشكال الحصار المفروض من الصهاينة وغيرهم ممن يرغبون تركيع الشعب الفلسطيني وجعله تبعا بلا قيمة ولا معنى وأن يعيش كما تعيش الهوام القانعون بالعيش على قارعة الطرق تُلقى إليهم الصدقات .
إنه الشرق الأوسط لصناعة الأدوية وأدوات التجميل واحدة من ست مؤسسات فلسطينية لصناعة الأدوية، اثنتان في قطاع غزة، وأربعة في الضفة الغربية، فقد كنت أول أمس الثلاثاء في زيارة بصحبة الإدارة العامة للصيدلة في الصحة بقطاع غزة برئاسة الدكتور منير البرش وصحبه الكرم من الإدارة العامة للصيدلة. سمعت عن صناعة الأدوية في قطاع غزة، وأن تسمع شيءٌ وأن ترى شيءٌ آخر، لأن السمع وحده دون مشاهدة عن قرب شيء غير مكتمل، أن تعلم أن شركة في قطاع غزة تصنع وتنتج تسعين من أصناف الأدوية والمنافسة عربيا ودوليا وبمواصفات عالمية، فهذا أمر نفخر به كفلسطينيين أن تكون لنا هذه الإمكانيات والقدرات في فترة زمنية ليست طويلة بالقياس لدول العالم، وتصل حد المنافسة، وفي ظل الأوضاع والأحوال والظروف التي لا تخفى على أحد والتي يعيشها قطاع غزة، هذا إن دل إنما يدل على إرادة وطنية فلسطينية تتحدى المستحيل ليس من أجل البقاء لمجرد البقاء؛ بل من أجل صناعة الحياة، وتأكيد حقيقة يحاول الكثيرون تغييبها عن عقول شعبنا استسهالا للتبعية وتمجيدا للأجنبي واستحقارا لقدراتنا وتقول أننا قادرون على صناعة المستحيل في ظل حصار واعتداءات متواصلة تتعرض لها كل قطاعات الحياة في قطاع غزة.
لا أبالغ إن قلت إن ما شاهدته كان آية وصورة ناصعة ومشرقة تبعث على الأمل في نفوس شعبنا الفلسطيني، وتؤكد على أننا قادرون على تحقيق الانجازات التي تجعلنا جزءا من هذه الحضارة الإنسانية العالمية التي ساهمنا في بناء جزء كبير منها في العصور الغابرة، وأننا قادرون اليوم على مواصلة البناء والمساهمة لو أتيحت لنا الفرصة المناسبة كما هي متاحة لبقية الشعوب، فإذا كنا نصنع ما نصنع ونقدم الانجازات في أقسى الظروف وأحلكها سوادا، فكيف لو كانت ظروفنا طبيعية؟ نحن لا ينقصنا العقول البشرية، فنحن في مقدمة شعوب العالم في التعليم، ولا ينقصنا الكفاءات العلمية المدربة والقادرة، ولا ينقصنا أصحاب رؤوس الأموال الجاهزون للمساهمة في الارتقاء بشعبهم ومؤسساته وتطويره، وزد على ذلك أن لدينا إرادة لا تلين قوية فولاذية صنعت المستحيل قادرة على التحدي، قادرة عل قهر المعيقات. شركة الشرق الأوسط لصناعة الأدوية وأدوات التجميل مثال واحد في فلسطين الذي يضم أمثلة كثيرة ومتنوعة نفخر بها ونعتز، ونعتبرها شامة وعلامة مشرقة إن دلت إنما تدل عل أننا نحب الحياة؛ ولكن ليس أي حياة، قادرون على أن نعيد مجد حضارتنا الضاربة في جذور التاريخ الإنساني.
هذا النجاح لهذه الشركة لم يأت من فراغ، إنما جاء نتيجة جهد بشري يقوده فريق وطني غيور لديه الإرادة والهمة والقدرة الإدارية والعلمية والمهنية هي التي أولتهم هذه الدرجة، فكانوا أصحاب رسالة يقودها الدكتور مروان الاسطل وفريق عمل الشركة والذي شعرت فيه كيف يدار العمل بالحب وهو من أروع أساليب الإدارة الإنسانية قبل إدارة الأمر والنهي وكثرة القرارات، شعرت وأنا بينهم كأنهم أسرة يقودها أب طيب ورحيم، أقول ذلك غير مجامل، ربما لا التقي بمن التقيت مرة أخرى، ومعروف عني أنني لا أجامل وأحاول قول قناعتي عن صدق دون ترقيع أو تجميل. أختم بالقول إن هذا النموذج الوطني الفلسطيني هو نموذج مشرف نتمنى أن نرى مثله أمثلة ونماذج كثيرة بها نبني حاضرنا ومستقبلنا إن شاء الله.