من البديهي أن تكون المطالب التي تتبناها الثورة الشعبية العربية، مطالب حقيقية ومشروعة وواضحة، وهو ما يعطيها الأهلية للتحرك واستقطاب الإرادة المجتمعية . ومعروف أن المطالب تتمحور عادة على تحسين المستوى المعيشي في ظل الظروف المعيشية المتردية، وتضاؤل فرص العمل، وازدياد مساحة الفقر، ونسبة الذين يقعون تحت خط الفقر، وذلك كله محصلة للمسار التنموي المغلوط في ظل غلبة الاستبداد وتفاقم الفساد اللذين يؤطران البعد السياسي المتحكم في الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كافة . ومن هنا يتبين أن تحسين المستوى المعيشي ليس محصلة قرار اقتصادي يحاول احتواء الوضع المعيشي المتردي، وإنما محصلة تنمية فعلية شاملة، من أهم أبعادها البعد السياسي الذي يتحكم في بقية الأبعاد، وهذا البعد السياسي في إطار التنمية الحقيقية، يتمحور على الديمقراطية ومنظومتها المتكاملة، وهي التي يتمثل فيها البناء المؤسسي الذي يحتضن الإرادة الشعبية والآلية المؤسسية التي تلبي مطالب الإرادة الشعبية . وهكذا يصبح الإصلاح السياسي مطلباً محورياً، وهذا الإصلاح قد يقتضي تغيير النظام القائم وليس التغيير داخل النظام . ولعل هذه المطالب المشروعة والحقيقية الواضحة، تستقطب القطاع الأكبر من المجتمع الذي يتلاحم مع الثورة الشعبية، وهذا التلاحم المجتمعي، شرط آخر من شروط نجاح الثورة الشعبية، إذ إنه يجعل لها قاعدة اجتماعية، ويؤهلها لحراك مجتمعي ويعطيها الأهلية . وهكذا يأتي شرط التلاحم المجتمعي محصلةً لشرط مشروعية المطالب، وإن كان للثورة الشعبية أن تعتمد على كل الوسائل العصرية المتاحة لتوضيح هذه المطالب، وتأكيد مشروعيتها ونشرها على نطاق واسع، من خلال الفضاء الإعلامي والمعلوماتي الواسع، ومن أبرز أدواته الإنترنت، والاعتماد على كل وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي لتحقيق هذه الغاية . وانتهاج الخط السلمي يعد شرطاً أيضاً لنجاح الثورة الشعبية، وهذا النهج السلمي يجب أن ينأى عن أي مظهر منافٍ له، وأن يضبط إيقاعه خلال مسيرته مهما يواجه من عقبات أو إثارات واستفزازات أو عنف . هذا النهج السلمي، يعطي للثورة الشعبية قوة معنوية كبيرة وينأى بها عن مواطن الخلل والزلل، ويدرأ عنها أي شبهة أو شائبة قد يحاول البعض استغلالها لخدش صورتها، حتى لو كانت مجرد ردة فعل . ومعروف أن النهج السلمي يقتضي الكثير من ضبط النفس، كما يقتضي الكثير من الصبر والتضحية . ومعروف في كل الأحوال أن النظام يستنفر قواه الأمنية للتصدي للثورة الشعبية ومحاولة إسقاطها والقضاء عليها باعتبارها تهديداً له، وهذا الاستنفار الأمني قد يكلف الثورة الشعبية قدراً ليس باليسير من التضحية، وهي بالطبع ترفض العنف . ومنهجها السلمي، يفرض عليها أن تكون بمنأى عن استخدام العنف، ذلك أن الدخول في دائرة العنف المتبادل، حتى في موازينه غير المتكافئة يخدش الصورة النقية للثورة الشعبية، ويلقي بظلاله على مطالبها المشروعة والحقيقية . وفي كل الأحوال، فإن الثورة الشعبية يجب أن تحافظ على صورتها الوطنية، بعيدة عن أي تدخل خارجي، مهما تكن القبضة الأمنية للنظام قوية وباطشة، إذ من البديهي أن أي تدخل خارجي، له تبعاته وتداعياته، وله مصالحه وأجندته البعيدة كل البعد عن المطالب المشروعة والحقيقية، وهي كلها مطالب وطنية تهدف إلى تحقيق مصالح المواطن، ورقي الوطن على أساس المواطنة الحقة التي لا تتحقق إلا في ظل نظام ديمقراطي حقيقي . إن نجاح الثورة الشعبية يعتمد على تكامل هذه الشروط، وهي المطالب المشروعة والحقيقية، والتلاحم المجتمعي، والنهج السلمي والنأي عن الخارج . وإذا تكاملت هذه الشروط، فإن الثورة الشعبية تكون قد أكملت معظم عناصر نجاحها، ويبقى موقف الجيش، والموقف الدولي، وكذلك الإقليمي، إضافة إلى طبيعة النظام، والانتماءات القبلية والمذهبية والطائفية ذات التأثير في نجاح الثورة الشعبية أو إخفاقها . وبالطبع فإن نجاحها ليس رهناً بلحظة تاريخية معينة يتهاوى فيها النظام أو تسقط رموزه، فالمسيرة طويلة حتى تحقيق المطالب، وهذه المسيرة الطويلة تتطلب حفاظاً على الشروط وتمسكاً بها، وإصراراً عليها، في مواجهة عقبات وصعوبات وتحديات، وتحركات لبعض العناصر التي تحاول أن تنتهز الفرصة لتحقيق مآربها الخاصة، أو لتعطيل المسيرة . هذه العناصر قد تتمثل في بعض القوى الداخلية، أو بعض القوى الخارجية، وهي في مجملها مناهضة للثورة الشعبية، أو مضادة لها، وليس في أجندتها إلا مصالحها الخاصة . ويقتضي نجاح الثورة الشعبية أن تكون هذه الشروط حاضرة باستمرار، في إطار تكاملي، وغياب أحدها قد يكون له تأثيره الكبير في النجاح .
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.