تتوفر المزيد من الدلائل التي تؤكد أن الأردن قد وقع ضحية تضليل ممنهج قام به رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو عندما أقنع الحكومة في عمان بالتوصل لاتفاق بشأن ترتيبات تواجد المستوطنين الصهاينة داخل الحرم القدسي الشريف. فقد كان من المتوقع أن يضع هذا الاتفاق، الذي تم التوصل إليه برعاية وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، حداً للمخاوف التي تعاظمت في فلسطين والأردن والعالمين العربي والإسلامي من أن إسرائيل شرعت بالفعل في تقسيم الحرم. لكن سرعان ما تبين أن نتناهو وأجهزته الأمنية قد خططوا لتحويل الاتفاق مع الأردن إلى رافعة لتحسين السيطرة الأمنية الإسرائيلية على الحرم القدسي؛ وهذا باعتراف الإسرائيليين أنفسهم. وقد أسفرت إسرائيل عن توجهاتها الخطيرة هذه خلال المفاوضات التي تتواصل منذ ثلاثة أشهر بين ممثلين عن جهات أردنية ودائرة الأوقاف الإسلامية في القدس من جهة وممثلين عن ديوان نتنياهو وأجهزته الأمنية من جهة أخرى. فحسب ما كشفت عنه مصادر في ديوان نتنياهو، فإن الجانب الإسرائيلي يصر على إملاء تفسيراته لبنود الاتفاق بما يحقق الهدف الإسرائيلي المتمثل في تحسين قدرة الشرطة والمخابرات الإسرائيلية على تشديد القبضة الأمنية على الحرم. فحسب ما نقتله صحيفة «هآرتس» في عددها الصادر في 7 فبراير الجاري، فإن إسرائيل أصرت خلال المفاوضات مع الجانب الأردني وممثلي الوقف الإسلامي على ضرورة أن تتولى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية الإشراف على كاميرات المراقبة التي نص الاتفاق على وجوب نصبها في مناطق مختلفة من الحرم. وحسب الصحيفة، فإن إسرائيل تصر على ألا تلعب الجهات الأردنية والأوقاف الإسلامية أي دور في الإشراف على الكاميرات. ليس هذا فحسب، وبعكس الموقف الأردني، فإن إسرائيل تصر على أن يتم نصب الكاميرات داخل المساجد وليس فقط في الساحات. ووفق ما ذكرته الصحيفة، فإن إسرائيل تصر على أن تحصل هي وحدها على الصور التي تقوم الكاميرات بالتقاطها ورفضت عرضاً أردنياً بأن يتم عرض هذه الصور على موقع إنترنت يبث الصور بشكل مباشر.
ومن الواضح أن الاستجابة للموقف الإسرائيلي يعني تمكين الأجهزة الأمنية الصهيونية من توظيف الكاميرات في مطاردة الفلسطينيين الذين يقدمون للحرم للصلاة وللرباط من خلال جمع قرائن تدينهم أمام المحاكم الإسرائيلية. فما لم تتمكن إسرائيل من تحقيقه منذ احتلالها للقدس والحرم، تحاول تحقيقه من خلال الإصرار على إملاء تفسيراتها لما ورد في الاتفاق مع الأردن. فمن الواضح أن الموقف الإسرائيلي يهدف إلى محاولة تهيئة الظروف أمام خضوع الفلسطينيين أمام المخططات الإسرائيلية من خلال محاولة ضمان التخلص من المرابطين والمرابطات، الذين يقفون سداً منيعاً أمام هذه المخططات. ففي حال تم قبول الموقف الإسرائيلي، فإن هذا يعني تقليص الجهود الأمنية التي تبذلها شرطة ومخابرات الاحتلال لضمان سيطرتها على الحرم، حيث أن الكاميرات تمكن من رصد تحركات المرابطين وتوثيق سلوكهم المقاوم ضد حملات التدنيس الهمجية التي يقوم بها المستوطنون الصهاينة تمهيداً لصياغة لوائح اتهام ضدهم أمام المحاكم الإسرائيلية. في الوقت ذاته، فإن القبول بالموقف الإسرائيلي يعني ردع الفلسطينيين على القيام بأي سلوك يمكن أن تفسره الأجهزة الأمنية الإسرائيلية على أنه معاد.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: إن كانت إسرائيل تبدي كل هذا التشدد حول موضوع فني يفترض أن يكون هامشياً، مثل موضوع كاميرات الرقابة، فهل يمكن أن يطمئن الأردن وغيره من الأطراف العربية والإسلامية إلى حقيقة النوايا الإسرائيلية.
إن ما أغرى إسرائيل بهذا التشدد حقيقة أن كلاً من الأردن والسلطة الفلسطينية لم يبدياً تصميماً على وفاء نتنياهو بأهم البنود التي تضمنها الاتفاق مع عمان والمتعلق بالتزام إسرائيل بعدم السماح لقطعان المستوطنين الصهاينة بـ»الصلاة» في الحرم. فقد وثق النائب العربي في الكنيست الإسرائيلي باسل غطاس قيام هؤلاء بأداء صلوات داخل الحرم، دون أن يترتب على الأمر ردة فعل قوية من الأردن والسلطة الفلسطينية.
هناك حاجة لموقف أردني قوي، لأن الحكومة الإسرائيلية تقدم على خطوات واضحة تهدف لتهيئة الرأي العام الإسرائيلي للاستعداد لحسم مصير الحرم وتهويده.
فماذا يعني أن تلزم حكومة نتنياهو مؤخراً كل المدارس الإسرائيلية بتنظيم رحلات إلى ما يعرف بـ»معهد الهيكل» وهو مؤسسة أخذت على عاتقها القيام بالتجهيزات اللازمة من أجل إعادة بناء الهيكل على أنقاض الحرم. وماذا يعني أن تمنح –الولايات المتحدة- التي رعت الاتفاق بين تل أبيب عمان، إعفاءات ضريبية لرجال أعمال يهود أمريكيين يتبرعون لمنظمات يهودية تجاهر بتخطيطها لتدمير المسجد الأقصى.
هناك حاجة لموقف أردني قوي يمنع إسرائيل من توظيف الاتفاق مع عمان لتنفيذ مخطط تهويد الحرم.