باختصار، ما يطالب به المعلمون المضربون عن العمل؛ هو تحسين رواتبهم أسوة بباقي الموظفين العاملين في القطاع الحكومي، فهل هذه المطالب ظالمة؟ هل مطالبة المعلمين بالمساواة مع بقية الموظفين جريمة؟ هل طلب العدالة خروج عن القانون؟ وهل من العدل أن تأخذ بعض المهن بدل طبيعة عمل تفوق الراتب الأساسي، في الوقت الذي ينتحر فيه المعلم بين البنوك، ولا يجد في آخر الشهر قوت يومه، ليقف تائهًا عن سد رمق أولاده؟ وهل وظيفة معلم من الوظائف الحقيرة لتكون أجرة العامل في المستوطنات الإسرائيلية عدة أضعاف راتب المعلم؟ هل مهنة التعليم تقل شأنًا عن مهنة القضاة والمهندسين والأطباء وعمال المحاجر؟
كان الأجدر بالمسئولين في وزارة التربية والتعليم أن يدافعوا عن مطالب المعلمين أمام الحكومة، لا أن يصطدموا مع مصالح المعلمين، ويتوجهوا عبر مكبرات الصوت في المساجد، ليدعوا الطلاب قبل يومين إلى التوجه إلى المدارس، والالتزام بالتدريس!.
لقد فشلت الوزارة في إفشال إضراب المعلمين، وهذا يؤكد وعي المجتمع الفلسطيني، وإدراكه لما يجري من حوله من أحداث حياتية وسياسية، لذلك كان تذرع الحكومة في عدم الاستجابة لمطالب المعلمين بالعجز في الميزانية، وبحجة الأزمة المالية الخانقة، وعدم إيفاء المانحين بالتزاماتهم، هذه الحجة لم تجد آذانًا مصغية لدى المعلمين الذين قهرهم الظلم، وعدم المساواة مع أقرانهم حملة الشهادات في الوظائف الأخرى، ومن أبناء جيلهم، الذين يحظون بالامتيازات والترقيات التي يحرم منها المعلم، فإذا كان راتب القاضي في المحكمة أعلى من راتب المدير العام، بينما راتب المدير العام يعادل راتب أربعة معلمين، فهل يعني ذلك أن راتب القاضي يعادل راتب ست معلمات، وإذا كان القاضي في القانون البريطاني هو عنوان العدل، وله مطلق الصلاحية في الصرف المالي، فإن المعلم في ألمانيا هو عنوان النهوض والتقدم الحضاري، فلماذا لا يتمتع بمطلق الصلاحية في الكرامة والمساواة مع الآخرين؟
إن الأموال التي تنفق على الدرجات الوظيفية العليا، وعلى الرتب العسكرية هي التي تحرض المعلم والمعلمة على مواصلة الإضراب، وعلى سبيل المثال، قد يصل راتب لواء في السلطة الفلسطينية مع البدلات إلى 15 ألف شيكل شهريًا، أي ما يعادل راتب سبع معلمات أو أكثر، إن هذا التمايز بين الوظائف الحكومية، هو الذي يحرض على التشكك بالجمل الجوفاء عن الوطن والوطنية، لأن رغيف الخبز الذي يشتريه المعلم لأولاده لا يختلف عن رغيف الخبز الذي يصل إلى بيت وكيل الوزارة؛ الذي لا يحمل إلا شهادة الولاء للتنظيم.
إن إغداق الأموال على كل أولئك الذين لا يعملون، ويخرجون للسفر، ويبيتون في الفنادق الفاخرة، هذا البذخ في الإنفاق من المال العام هو المحرض على الإضراب حتى تحقيق المساواة مع بقية الموظفين، ولا سيما مع أولئك الذين لا يرتضون لأولادهم إلا التعلم على حساب السلطة في الخارج، أما في الداخل، فإن أبناء المسئولين يركبون سيارات الحكومة، في طريقهم إلى المدرسة، بينما يركب المدرس قدميه، وفي الوقت الذي يركب فيه ابن التاجر أو ابن صاحب المصانع والشركات سيارة الأجرة، ويقول للسائق: طلب، أوصلني بسرعة إلى المدرسة، ليكتشف عند باب المدرسة أن السائق هو المعلم نفسه.
أزعم أن إضراب المعلمين قد تأخر قليلًا، وقد تحملوا ذل الحاجة لفترة من الزمن دون صراخ، وطالما قد حركهم وجع الحاجة، فإن الواجب يقضي بأن يهب المجتمع لنصرتهم، ولو أدى الأمر إلى إغلاق كل مؤسسات الترف التي تستنزف المال العام، بما في ذلك مؤسسة الرئاسة، والمؤسسات الأمنية، التي تنفق شهريًا ما يوازي دخل آلاف المعلمين، ويكفينا من المعرفة أن ميزانية الأجهزة الأمنية 28% من الميزانية العامة، في حين بلغت ميزانية التربية والتعليم 13% فقط، مع العلم أن عدد المعلمين والمعلمات تجاوز 66 ألف معلم ومعلمة.
لقد رفع المعلمون شعار: معلمٌ بلا كرامةٍ جيلٌ بلا انتماء.
فهل ذلك يعني أن القائمين على الأمر في السلطة الفلسطينية يريدون جيلًا بلا انتماء؟ فتعمدوا أن يهينوا كرامة المعلم من خلال تجاهل مطالبه العادلة، وتركه يتدبر شئون بيته المالية من خلال العمل الإضافي في المحلات التجارية وفي الأسواق، أو العمل سائق أجرة.
إن رفض المعلمين لصيغة الاتفاق الموقع بين أمين عام المعلمين أحمد سحويل، وبين الحكومة يعني عدم الرضا عن الاتفاق من جهة، ويعني رفض التعيين لأمين عام للمعلمين الذي يمثل ذراعًا من أذرع منظمة التحرير، لذلك جاء تجاوب اللجنة المركزية لحركة فتح مع مطالب المعلمين، استدراكًا للأمر، واقتناعًا بأن المعلمين ليسوا رقمًا هامشيًا في حياة المجتمع، لذلك طالبت اللجنة المركزية من أحمد سحويل الاستقالة. وهذه أولى بشائر النصر.
ليستقل أحمد سحويل، وليترك ساحل الفلسطينيين كل من هم على شاكلته، ولا سيما قادة الإعلام الأسود؛ الذين سعوا إلى تشويه أهداف الإضراب المنظم، والحيلولة دون انتصار المعلمين الذي سيشكل بداية الهزيمة للأكذوبة التي ساقت الناس إلى المجهول السياسي، وغطت على حكم الفرد المطلق، الذي ظن أن الضفة الغربية جثة هامدة، سيقطع من لحمها كما يشاء، ويبيع من دمها لمن يشاء دون أن تتحرك الروح.
لقد تحركت الروح في جسد المعلمين والمعلمات، وأرسلوا رسائلهم التي مفادها: إن هؤلاء الشباب الذين يندفعون باتجاه العدو الصهيوني، هؤلاء المقاومون هم أولادنا وبناتنا، هم طلابنا، ونحن لهم معلمون، نحن مَن غرس في قلوبهم شجرة الوطن التي تترعرع فينا نسائم حرية، فكيف نسكت عن حقوقنا، ونحن نرى طلابنا يقتحمون سياج الموت؟!.