27.21°القدس
26.7°رام الله
26.08°الخليل
27.8°غزة
27.21° القدس
رام الله26.7°
الخليل26.08°
غزة27.8°
الثلاثاء 08 أكتوبر 2024
4.95جنيه إسترليني
5.35دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.15يورو
3.79دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.95
دينار أردني5.35
جنيه مصري0.08
يورو4.15
دولار أمريكي3.79

رحم الله حسن الترابي

يوسف رزقة
يوسف رزقة
يوسف رزقة

توفي حسن الترابي رحمه الله. نحن لا نعرفه كثيرًا في فلسطين، ولكنه هو يعرف فلسطين كمعرفتنا لها وأكثر، وكان يعمل لها كما يعمل شعبنا مع بعد المسافات.

نحن في فلسطين لا نعرف كثيرًا عن الترابي الرجل الإنسان، ولكن من عايشوه وتعاملوا معه يعرفون إنسانيته الفذة على مستوى المعاملة والفكر. الرجل صاحب فكر وسطي إسلامي إنساني يسع الجميع، ولا يعرف التمييز بين أتباع وغير أتباع، يلتقي في بيته ومنزله كل الطيف السوداني ببشاشة وجه وابتسامة مميزة.

الترابي فقيه دستوري في القانون، والقانون الدولي، وقد شارك في وضع دساتير عدد من الدول العربية والإسلامية قبل أن تشغله السياسة وتستغرق وقته. هو خريج جامعة السربون الفرنسية، وهو يتحدث الفرنسية والإنجليزية بطلاقة، ولكن حديثه بالعربية الفصيحة لا يشق له فيها غبار، وربما أتقنها صغيرًا عندما حفظ القرآن الكريم ومنظومات علوم النحو والبلاغة والفقه والأصول، وما عليها من شروح متنوعة.

الترابي ضليع في أصول الفقه، والفقه، وربما يرى في نفسه قدرة على الاجتهاد، وربما جرت عليه بعض اجتهاداته نقدًا من الآخرين، لكن هذا لا ينتقص من قدراته واحترام العلماء الآخرين له ولأقواله. أهل السودان يعرفونه، ونحن نعرفه، أكثر من باب الدعوة، ومن باب السياسة، فالرجل رحمه الله شغل السودان، بل والعالم العربي والإسلامي بفكره الدعوي، وخطاباته الدعوية، ثم السياسية أيضًا، فهو من القلة من العلماء الذين يجمعون بين السياسة والدعوة، في مزيج فريد يصعب فك شيفرته، سواء وقف خطيبًا، أو وقف محاضرًا، أو محاورًا، وكانت له قدرة عالية على تأصيل المواقف التي له وجه من الحداثة.

عاش الترابي بيئة السودان المسكونة بالتصوف، الذي تجاوز تصوف المهدية والختمية إلى عشرات من الفرق الأخرى الأصغر حجمًا وانتشارًا، وهو شخصيًا ربما نشأ في بيت من التصوف، قبل أن يرتقي في العلم والمعرفة، وكان عليه وعلى أتباعه مواجهة ما في التصوف من بدع وانحرافات، بعضها يصل إلى درجة الانحراف العقدي عند من يؤمنون بخيال القدرة التي تحمله من الخرطوم إلى مكة للصلاة جماعة في الحرم بينما هو جالس مع مريديه؟!

كان الترابي داعية يحمل في جعبته دعوة حسن البنا والإخوان المسلمين، وهو ممن يجلّ البنا وعلمه ومدرسته، ولكنه يأخذ على اتباع البنا الجمود عن ميراثه بينما الدنيا تتحرك، وبسبب هذه الانتقادات وغيرها مما له علاقة بالأبعاد التنظيمية دخل الرجل إلى دائرة الخلاف مع الإخوان في مصر في السودان. ترك الترابي التنظيم ولم يترك الدعوة البتة. وحين ترك الإخوان واستحدث اسم الجبهة القومية، التحق به جلّ الإخوان، عدا قلة تمسكت بالاسم القديم واختارت الشيخ صادق عبد الماجد الرجل الفاضل لها أميرًا.

وأشهد أن الترابي كان داعية مصالحة ووحدة مع الآخرين، وقد التقيته ونحن في السودان مع بعض الإخوة في منزله على قاعدة التقريب بينه وبين الإخوان السودانيين في أثناء حكم سولار الذهب، فقدم الرجل لنا ورقة بيضاء قال اكتبوا فيها، واشترطوا فيها ما تريدون، بعد أن اطمأن لمشروعية ما نطرح، ولكنا لم ننجح لأن الطرف الآخر له رأي آخر.

أخيرًا وليس آخِرًا، فقد أدركتنا مساحة المقال، نقول: حين يموت العلماء الكبار، ورجال الدولة الكبار، وقد كان الترابي رجل دولة بالمعنى الحقيقي، وحين يموت من فقهوا فلسطين وعملوا لها، لا يموت علمهم، ولا فكرهم، ولا عملهم، ولا صفاتهم، ولا إنسانيتهم. إن كل ذلك يبقى في ميراثهم الذي تركوه لنا لكي نترحم عليهم، وندعو لهم بالمغفرة والرحمة. رحم الله الترابي وأسكنه فسيح جناته.