كثيرا ما أتحدث عن موضوع تغلب الحاسوب على ذكاء البشر، لأقابل بردود تقليدية تغلب عليها العاطفة النرجسية، بالرغم من أنني أطرح عدة أدلة موجودة على أرض الواقع تبين أن الذكاء الاصطناعي وصل إلى مراحل متقدمة، بحيث استطاع الحاسوب التغلب على ذكاء الإنسان في مجالات يفتخر البشر بتفوقهم فيها.
وبالرغم من أنني أقدم أدلة على قدرة الحاسوب على الإبداع في الموسيقى والرسم والكتابة وغيرها، وبالرغم من أنني أبين أن الدول الأوروبية والولايات المتحدة خصصت ميزانيات مليارية لتطوير هذه الأنظمة الذكية لعلمها بالنتائج العملاقة التي ستحققها، فإن العاطفة يصعب التغلب عليها بسهولة.
ولكني أعود في هذه المقالة لأجدد تذكيري بأهمية هذا الموضوع، ولأؤكد أكثر على أن العاطفة ستنتهي في السنوات القادمة حينما يُستبدل بالإنسان نفسه بدائل حاسوبية ذكية، سيُستبدل البشر في كل ذكاءاتهم -ليس فقط على المستوى الفردي- بل كلهم مجتمعين.
حاليا أعمل على تطوير خوارزميات تقوم بنمذجة مبسطة لخلايا المخ -مبسطة جدا ولا تقارن بتراكيب خلايا المخ- هذه النمذجة وإن كانت بسيطة فإنها تؤدي مهام تفوق ما تؤدي إليه القوانين الرياضية الجامدة التي تشتق من أجلها، فعلى سبيل المثال، تستطيع هذه الخلايا العصبية الاصطناعية أن تميز كتابة الأرقام بخط اليد بنسبة تفوق -ليس فقط الخوارزميات السابقة- بل قدرة الإنسان على تمييزها.
هذا النوع من الخوارزميات يطلق عليه اصطلاح التعلم العميق، ضمن اصطلاحات كان يتميز بها الإنسان فقط، أما الآن فقد رُحّلت هذه المصطلحات لتصف الحاسوب.
التعلم العميق
التعلم العميق قادر على القيام بأكثر من تمييز الخط، فهو يستطيع أن يميز الصوت ويحوله إلى كتابة، أنت تستخدمه اليوم -ومن غير أن تعلم- في هاتفك الذكي على سبيل المثال، فحينما تتكلم مع "غوغل ناو" وتسأله باللغة العربية: "ما هي حالة الطقس اليوم؟" أو "ما هي أجمل عبارة قيلت في التاريخ؟" أو "من أين أتينا؟" سيبحث عن الإجابة كما لو أنك كتبت هذه الكلمات باستخدام لوحة المفاتيح، فصوتك انتقل إلى حواسيب غوغل، وهي بدورها تحلله وتستبدل به كلمات مكتوبة بدقة وسرعة كبيرتين جدا، ثم تستخدم خوارزميات أخرى ذكية لكي "تفهم" ماذا الذي قصدته بالضبط، وبلمح البصر تأتيك بالإجابة.
كذلك فإن ميكروسوفت أعلنت قبل أيام أن اللغة العربية أدرجت ضمن اللغات التي سيترجمها برنامج التواصل سكايب إلى لغات أخرى، وذلك يعني أنك ستتمكن من التحدث باللغة العربية مع شخص آخر لا يتحدث بها، ليُترجم حديثك إلى اللغة الأخرى، ليقوم بعدها الحاسوب بترجمة الرد من اللغة الأخرى إلى اللغة العربية. الترجمة ليست أمرا سهلا على الحاسوب، فلم يكن العلماء قادرين على هذا الإنجاز الكبير إلا بعد أن طوروا خوارزميات التعلم العميق.
ولعل من أبرز الأخبار في الأيام الماضية تغلب الحاسوب ألفاغو (AlphaGo) على بطل العالم في المرتبة الثانية "لي سيدول" في لعبة "غو". ومن المشهور أن اللعبة هذه أصعب بكثير من الشطرنج، فعدد احتمالات الاختيارات فيها يقزم عدد احتمالات اختيارات الشطرنج، ومع ذلك فقد استطاع الحاسوب تعلمها و"فهمها" ليتغلب على بطلها ٣-١، وهو أمر محرج. أما الأكثر إحراجا فهو ما قاله بطل اللعبة بعد أن فاز: "لقد هنؤوني كثيرا لمجرد أنني فزت بلعبة واحدة"، وهذه العبارة الساخرة تدل بوضوح على أننا أصبحنا الآن نفتخر بأي غلبة تلمع لنا ببريق من الأمل على قدرة البشر للتغلب على الحاسوب حتى ولو مرة واحدة.
استخدامات متعددة
استخدامات التعلم العميق لا تقتصر على التمييز والترجمة واللعب، فهي تتعدى ذلك إلى أمور أكبر بكثير، وإن أدركنا أن مثل هذه الخوارزميات تتعلم المعلومات باستقلالية (فعلى سبيل المثال لقد تعلم آلفاغو باللعب ضد نفسه)، وبعد تعلمها تتكون "صورة ذهنية" مجردة للمعلومات بداخل خلاياه الاصطناعية، ومن هذه الصورة تستطيع أن "تفهم" المعلومات وتصل إلى نتائج، ذلك ربما سيوضح ما بلغته هذه التقنيات من مستويات بالغة الخطورة، إلى الحد الذي حدا بالعلماء لفتح مجال جديد لم يكن ممكنا في السابق، وهو تعليم الأخلاق للحاسوب، حتى لا يأتي اليوم الذي نواجه فيه أجهزة متفوقة بلا أخلاق، ولكن أي أخلاق ستتعلم؟ (أترك موضوع الأخلاق لمقالة مستقبلية).
الكلمات مثل "صورة ذهنية" و"تفهم" وغيرها من اصطلاحات عادة ما تطلق على العقل محاطة حاليا بأقواس، ولكن بمجرد أن تقترب الحواسيب أكثر من قدرات البشر المتبقية، ستزول العواطف المصاحبة لحقوق الملكية الفكرية للذكاء، وستزول معها الأقواس، بل ربما سيأتي اليوم الذي يضع الحاسوب هذه الأقواس حول نفس الكلمات حينما يصف ذكاء الإنسان.