لا يترك أعداء الثورات العربية فرصة إلا ويستغلونها من أجل التأكيد على أن ما جرى ويجري ليس سوى مؤامرة، وأقله نوعا من العبث السياسي الذي يدمر البلاد ويهد مصالح العباد، ويتراوح هؤلاء في الغالب بين طيبين مخلصين، وهم القلة، وبين آخرين منحازين للأنظمة السابقة، أو حزبيين مؤدلجين وطائفيين ساءهم أن يكون اللون الإسلامي هو الصاعد على أنقاض الأنظمة الهالكة، ولسان حالهم يقول “نار الأنظمة الفاسدة ولا جنة الأصولية”، مع أن الأخيرة لا تعد بالجنة في الدنيا، بقدر ما تعد بمساع مخلصة من أجل إصلاح الأوضاع القائمة ضمن ما هو متاح، وفي مواجهة الكثير من التعقيدات والتحديات. جاء إعلان إقليم برقة في ليبيا، ليشكل هدية لأعداء الثورات، فلم يبق أحد منهم إلا وأشار إليه بهذه الطريقة أو تلك، بينما كان كثير منهم لا يتوقفون عن تهديدنا بمصير العراق في سوريا وسواها من أجل تبرير الانحياز للنظام المجرم في دمشق، أو من أجل التشكيك في الثورات والحديث الممل عن “الفوضى الخلاقة” و”سايكس بيكو الجديدة” و”تقسيم المقسم” إلى غير ذلك من المصطلحات التي يعرف المخلصون ما يختفي وراءها من نوايا وبرامج. لا نريد التقليل من خطورة الخطوة التي أعلن عنها في ليبيا، لكن واقع الحال يقول: إن فرصة نجاحها تبدو مستبعدة إلى حد كبير، وهي لا تعدو أن تكون وسيلة ابتزاز يمارسها قلة من الناس من أجل الحصول على مزيد من المكاسب، تماما كما يفعل بعض قادة الثوار الذي زاد عدد عناصرهم بعد نجاح الثورة، ودائما من أجل المساومة وتحقيق المكاسب الشخصية والقبلية. في بلد تشيع فيه القبلية، ويزدحم بالثروات الهائلة ولم تكن فيه حياة سياسية حقيقية، يبدو من الطبيعي أن تكثر فيه التناقضات، وتزداد فيه الصراعات، لكن المسيرة ستمضي نحو الهدوء التدريجي وتكريس واقع أفضل من ذلك الواقع الذي صنعته أسرة القذافي الفاسدة المجرمة. ليس ثمة ثورات في الدنيا تمر نقية بيضاء، سواء أكانت ضد احتلال أم ضد نظام دموي فاسد، وإذا كانت فصائل الثوار في كل بلد تتعدد وتتناقض، بل وتقتتل أحيانا، فإن الأمر يغدو أكثر من طبيعي حين تأتي ساعة القطاف، لكن ذلك لا يعني إقامة الكربلائيات على الوضع القديم، وإشاعة مقولات الترحم على وضع سابق الذي في ظاهره الهدوء والاستقرار، بينما يعشش في باطنه الفساد والعفن والظلم (دعك من حالات الاحتلال المباشر). الحرية ليست سلعة رخيصة، وإذا كانت رخيصة في وعي البعض ممن استمرؤوا العيش في ظل الظلم والفساد، فإنها ليست كذلك في عرف الغالبية من الناس؛ أولئك الذين ليس لديهم الكثير مما يخسرونه، وهم يفضلون خوض التجربة رغم ما فيها من مرارات على أن يبقوا أسرى البؤس القديم. في أوروبا لم تستقر الأوضاع على ما هي عليه إلا بعد قرون من الصراعات البينية والأهلية والمساومات التي راح ضحيتها عشرات الملايين من الضحايا، ومن يعتقد أن هذه الأمة ستخرج من تحت رماد القهر والظلم والفساد والإفساد بيضاء نقية، فهو واهم، ولا بد أن تمر المنطقة بمخاض كبير وصولا إلى وضعها الجديد (الأفضل من دون شك)، لاسيما أن هناك قوىً كثيرة (داخلية وخارجية) تتربص بالثورات وتريد إجهاضها، بل إن أنظمة لم تصلها الثورات بعد تبدو معنية بوصول الناس إلى تلك القناعة بضرورة إبقاء الوضع على حاله بدل خوض مغامرة التغيير، وأقله الضغط من أجل الإصلاح. اللافت بالطبع أن استغلال أي حدث هنا وهناك من أجل تشويه الثورات يكاد يتجلى بأوضح صوره في أدبيات “شبيحة” النظام السوري الذين يريدون منا الوقوف ضد ثورة الشعب، وأقله تأييد مطالبتهم بحل سياسي يبقي آل الأسد في السلطة، بينما يمنح لقمة إصلاح لا تسمن الشعب الثائر ولا تغنيه من جوع (في رسالة لزوجته يصف بشار الأسد قوانين الانتخابات والأحزاب والإعلام بأنها سخافات!!)، ودائما تحت دعاوى الخوف على سوريا الوطن والدولة، ومعها المقاومة والممانعة والصراع مع العدو الصهيوني، مع أنهم لو صدقوا لطالبوا النظام بالرحيل بدل مطالبة الشعب بتقبل الهزيمة. كل ذلك لن يكون مقنعا بأي حال، وجماهير الأمة تدرك الحقيقة، وهي لذلك لا تتردد لحظة في نصرة الثورة في سوريا وإدانة جرائم النظام، بل إن الحديث عن انقسام شعبي لا يعدو أن يكون دعاية فارغة، ومن يدقق في المشهد، سيتأكد أنه منذ عقود طويلة لم يُجمع العرب والمسلمون على معركة (غير فلسطين) قدر إجماعهم على دعم الثورة في سوريا، طبعا باستثناء الشرخ المذهبي الذي أحدثه الموقف الإيراني.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.