لقد طوفت أخبار رئيس الوزراء التركي أردوغان بين الناس حتى غدا شامة بعدله واستقامته في زمن الظلم والفساد، وانتشرت بين الناس حكايته يوم سئل كيف أصلح أوضاع بلدية اسطنبول بعد سنين من الخراب عندما تولّى رئاستها فأجاب: لم أسرق. ذات المعاني في النزاهة تراها متحققة عندما تزور المجلس التشريعي الفلسطيني فتظن أنّك في المكان الخطأ لولا اللافتة، فقد اعتدت في دولتك على مكان تغلب عليه الفخامة والأبهة (دون إنجاز)، واعتدت على أناس يسمعونك معسول الكلام حتى يدركوا غرضهم منك ثم يتنكّرون لك فلا تستطيع مخاطبتهم سوى بالمعالي والسعادة والسيادة والعطوفة. أعضاء المجلس التشريعي في غزة حفظة وقراء وحملة أسانيد ومجاهدون وأسرى ومبعدون وعلماء وسيرة ذاتية حافلة بكل أنواع المجد الذي لا يجتمع لبشر سوى في مثل بيئتهم، وهم عند لقياهم يحتضونك بعيونهم قبل أجسادهم وترى البِشر والترحيب في قسمات وجوههم قبل كلامهم وكأنّك ضيفا قد هبطت عليهم من السماء! ترى عظيم صنعهم وحسن تدبيرهم وحكمة قرارهم في كل مكان من غزة حيث الإنجاز والعمل وسلامة الصدر ونظافة اليد والمساءلة. إنّهم لم يسرقوا، ولم يفرّطوا، ولم يخونوا لذلك وثق بهم شعب عظيم كشعب غزة وأسلمهم قيادته. * الحياة في سبيل الله في أهل غزة حرص على الحياة ونوعيتها يقابله بذات القدر أو يزيد حرص على الجهاد والشهادة، يعيشون وقدر الله ووعده نصب عيونهم، ولكنهم لا يمضون أيامهم في الخوف والقلق والندب. جامعاتهم تتقدّم على الجامعات العربية في الدول الآمنة المترفة في البحث العلمي. يحرصون على الصحة النفسية للمواطنين، ففي غزة مراكز للعناية بالأم والطفل وحضانات وملاعب وحدائق ومراكز لياقة وتجميل ومشاريع صغيرة ونواد صيفية، والحكومة تحاول أن توفّر للشعب على قدر إمكانياتها كل ما يمكّنه من الاستمرارية والتفوق، في أهل غزة تقرأ ما قاله الغزالي “إنّي أريد إفهام المؤمنين أنّ الحياة في سبيل الله كالموت في سبيل الله، كلاهما جهاد مقدس * المحررات والمؤسسات والمشاريع بالرغم من أنّ الموت يواجه أهل غزة في كل حين إلاّ أنّه لا يأسرهم، بل يواجهونه بطاقة الأمل والعمل والبناء ولا يكتفون بالشعارات الرنانة الآنية التي تحرّك القلوب، بل يحرصون على بناء المؤسسات التي تستثمر في المستقبل وتُبقي الفكرة خالدة بتحويلها إلى عمل يتوارثه الأبناء عن آبائهم. أخبرونا أننا سنزور المحررات، فظننت أنّهن الأسيرات اللواتي أطلقن في صفقة وفاء الأحرار لأكتشف أنّ المحررات هي الاسم الجديد للأراضي الفلسطينية التي كانت فيما سبق مستوطنات (مغتصبات) صهيونية، يحرص أهل غزة على الإشارة إليها بهذا الاسم حتى يبقى مفهوم الحرية والمقاومة راسخا في الأذهان مهما طال الزمان، فاللغة حتى اللغة ثائرة في غزة وهم يحرصون أن تكون لغتهم مخبرة عن هويتهم وإنجازاتهم. المحررات أراض شاسعة تمتد على آلاف الدونمات خرج منها العدو الصهيوني بعد أن خرب البيوت وأحرق الأرض حتى لا تنبت أخضرا ولا يابسا، ولكن البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه وبسواعد أهله الذين حوّلوا الأرض المحروقة إلى جنات غنّاء في ثلاثة سنين ضمن خطة خمسية لوزارة الزراعة للاكتفاء الذاتي وعدم الاستيراد لا من الداخل ولا من الخارج وشعارهم “عندما يكون أكلك من فأسك فقرارك من رأسك”، وهذا شكل آخر من أشكال الحرية والانعتاق والتنمية المستدامة. * آيات الرحمن في جهاد أهل غزة كنت صغيرة يوم قرأت كتاب الشهيد الدكتور عبد الله عزام رحمه الله “آيات الرحمن في جهاد الأفغان”، وكنت أتعجّب من كل قصة وكرامة، وأظنّ أنّ في الأمر بعض مبالغة للتحفيز على الجهاد، ولكن في غزة عاينت صدق ما قرأته يوما بل وزيادة، بل إنّ غزة وأهلها كتاب ممتد من الكرامات ما زالت تُكتب حروفه حتى هذه اللحظة، اخترت منها بعض السطور: * إنّ للجنة رائحة لو كنتم تعلمون باسم جندية أب لثمانية أولاد يعمل في صناعة الأسلحة للمقاومة قصف بيته الجديد في تل الهوا سابقا (تل الإسلام حاليا)، فخرج بأولاده وزوجته يريد تأمينهم وزوجته تصرخ: سنموت، دعنا نختبئ حتى ينتهي القصف، فأجابها: لا لن نموت اليوم، فإنّي لا أشم رائحة الجنة. هي قصة الصحابي أنس بن النضر الذي شم رائحة الجنة دون أحد، ولكنها بالنسبة لنا كانت قصة جيل مضى وانقضى ولكنه كان حاضرا بشخوصه ومعانيه عند أهل غزة بهذه الدقة والتفاصيل وانتظار النتائج. يوم قصف بيته لم يكن يوم موعد باسم جندية (أبو مالك) مع الشهادة، بل كان اليوم الأول من حرب الفرقان، حيث كان يشتغل في المعمل فسقط الصاروخ فتفجّر بالمعمل بما فيه ومن فيه ولم يبقَ من أبي مالك حتى أثر إبهامه ليُعرف به. * اثنتان وسبعون كنّة وحيد أمه الشاب العشريني محمد ضاهر وسندها وظهرها كان ليعفى لو استعفى، فحتى الرسول صلى الله عليه وسلم قال لوحيد والديه أن يجاهد فيهما ويلزمهما، ولكن محمد لم يعفِ نفسه وكان يعلم أنّ لأمه ربا لن يضيعها ولن يضيعه. عندما زرنا بيت عرس الشهيد محمد الذي استشهد بعد إطلاقه لصاروخ باتجاه المستوطنات الإسرائيلية وجدنا أمه تبكي حسرة لأنها لم تزوجه عندما طلب ذلك منها بسبب ضيق ذات اليد، فأبكت من حولها وبكينا كلنا ذلك الشاب الوسيم حتى قامت أم محمد الرنتيسي، زوجة الشهيد عبد العزيز الرنتيسي، وأيقظتنا جميعا من غفلة التحسُّر على ما كان ليكون من نعيم الدنيا وقالت لأمه: يا حاجة أردت كنّة (زوجة ابن) واحدة فأعطاك الله اثنتان وسبعون كنّة كلهن من ذوات الجمال والدلال والأدب والفضل. نحفظ كلنا مكارم الشهيد وأجره ولكن ما نحفظه نظريا يتمثّله أهل غزة عمليا ولهذا يصبرون ويضحون ويتاجرون مع الله. * دورة تدريبية لمنظمات الأمم المتحدة النسوية في غزة المجتمع الدولي ينظر إلى المرأة العربية على أنّها مظلومة مسحوقة لا إرادة ولا حقوق لها ويفرض علينا قوانينه ومعاهداته قسرا بدعوى النهوض بمستوانا، هذا المجتمع الدولي ومؤسساته يحتاج إلى دورة تدريبية في غزة ليرى بأم عينيه كيف تفوّقت نساء غزة على نساء العالم بالإرادة والعلم والشجاعة دون محاربة الرجال ومناكفتهم، بل لقد أفسح لها الرجال طواعية لما رأوا من عظيم صنعها وشديد بأسها. من أول وزيرة شؤون المرأة والأسرة الأستاذة جميلة الشنطي إلى عضو المجلس التشريعي هدى نعيم إلى أستاذات الجامعة الإسلامية بغزة إلى مسؤولات وزارة التخطيط إلى أمهات الشهداء وزوجاتهم وبناتهم في كل المجالات السياسية والعلمية والاجتماعية، المتعلمة والأمية، كلهن قمم ونماذج وأيقونات لما يمكن أن تحققه المرأة مع الحفاظ على دينها وهويتها. نتعب نحن النساء في الدول المنعمة على أنفسنا تعليما وقراءة وعملا، فنجد أنّ كل ما فعلناه تلخّصه نساء غزة بكلمة وموقف، فإمراة المقال غير امرأة الفعل ونساء غزة كلهن جنود في الميدان يسابقن الرجال إلى كل خير ونضال بدأن من سرير أطفالهن إلى مواقع القيادة العليا. * عشرة ودكتوراة لا أستطيع، تعبت، مللت، جسمي، من سيربّي، من سينفق، 2 3 4 نعمة وزيادة، هذا ما نسمعه على لسان معظم الأمهات في دولنا العربية تذرُّعا بعدم الرغبة في الإنجاب والاقتصار على عدد قليل من الأبناء وهذا بالطبع ما يُرضي الأمم المتحدة التي تسعى لتقليل أعداد المسلمين ولا تنتهج ذات السياسات فيما يتعلق بالعدو الصهيوني الذي يعطي مكافآت على زيادة الإنجاب. في غزة هناك حكاية أخرى وإنجاز آخر، فالأعداد الصغيرة غير معترف بها في مجال الإنجاب الذي يعتبرونه سلاحا لمواجهة التصفية الممنهجة للشعب من قبل العدو الصهيوني ومددا جهاديا واستثمارا في مستقبل الوطن. في غزة قابلت امرأة يحق لها أن تفخر بسيرتها الذاتية، فهي أم لعشرة أولاد كلهم متعلمون وكبارهم منخرطون في المقاومة، وهي أيضا لها إنجازها الشخصي، فقد تزوجت في سن مبكرة وأكملت بعدها تعليمها الجامعي في القانون، ثم حصلت على الماجستير وهي الآن في المراحل النهائية لنيل درجة الدكتوراة. أَنحن نساء وهن نساء؟! صدق من قال: من صح منه القصد هُدي إلى الوسائل. ولنا عود بإذن الله.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.