غاب الأب وانقطعت أخباره فقد اعتاد السفر، خرجت وأطالت النظر في طرقات المدينة علها تعثر على أثر، تاهت ولم تعد، غابت كما غاب، وأعياها التعب، سألت بين الحنايا قبل أن تسأل فسيح المكان، فلم تجد إلا مط الشفاه دون كلام، والعيون شاردة وفيها هيام، وبات البيت على شفا الانهيار، فلا حسيب ولا رقيب. الأب اعتاد السفر والأم فقدت المستقر ولا راعي، نظر الأولاد حولهم صغيرهم وكبيرهم، وإذا بهم وقد انفجرت أفواههم معاً: ما العمل؟ أين المفر؟ لمن الملجأ؟ وأين المستقر؟ لا مجيب؛ إلا صدى صوت من بعيد، وكأن الآذن صمت، والأفواه أخرست خوفاً أو جزعاً، وساد صمت رهيب. نظر الجميع إلى الأخ الأكبر علهم يجدون ما يفيد، فالخطب جلل، وبقاء الحال لا يفيد، ولابد من رأي رشيد، وإلا كان الضياع والتيه والخطب الشديد. نهض الكبير والسؤال الوحيد: أين؟ قالها الجميع. قال: اتركوني حتى المساء أفكر في روية وانتباه، قد أجد ما يفيد، وسأعود حالاً ومعي القول السديد. فقالوا: لا تغِب كما غابوا. - لا تخافوا فأنا أخوكم الكبير. وانصرف... وانتظروا، وطال المغيب، فيخرج أولهم وينظر في الأفق البعيد فلا جديد إلا صفير الهواء . والثاني يطل من شباك عتيق فتصده الريح في وجهه، فيسقط ثم ينهض يحاول من جديد. فقال أوسطهم: ناموا ربما يأتينا الصباح بالجديد، فقد أرخى الليل سدوله وما عاد يرتجى منه عود أو ما يفيد. "أيعقل هذا؟!" قالتها الأخت الكبرى. "أيتركنا الكبير كما تركونا بلا راع أو حبيب!، أي زمان هذا الذي نعيش، أغاب فيه العدل والرشد والقلب الحنون". "يا الله، أي جنون هذا، من له أن يواسينا، أو يحمل لنا بشرى عودة الأب والأم والأخ الكبير!". لا لا لن نقبل أن يكون مصيرنا تشرد وضياع وعويل، سنخرج صارخين في وجوهكم أجمعين أن أفيقوا نحن بشر من حقنا أن نجد من يصون كرامتنا ودمائنا لا أن يخون.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.