تميزت الحالة الكفاحية الجارية في القدس والضفة الغربية منذ الأول من أكتوبر/تشرين أول من العام الماضي 2014، بسمتين أساسيتين؛ العمليات الفردية، وكثافة هذه العمليات.
وإذ ظلت العمليات فردية حتى اللحظة، في غالبها، لأسباب متعلقة بشروطها الموضوعية، سياسيا وأمنيا، وحتى اجتماعيا واقتصاديا، فإن هذه الكثافة قد تراجعت لذات الشروط الموضوعية، ولا سيما تلك التي يتحدد بها موقف السلطة الفلسطينية وما يرتبط بها، وضعف فصائل المقاومة في الضفة الغربية، لأن هذه "الانتفاضة" الراهنة تقوم في الأساس على دوافع مجتمعية غير واضحة في أدواتها، ولا تخضع لشروط العمل التنظيمي المركزي بما يملكه من أدوات التوسيع والدفع والتعبئة والحشد.
ولذلك فإن كل المحاولات لتطوير أدواتها وتوسيعها جغرافيا وشعبيا، قد توقفت حتى اللحظة على الأقل، ولكنها كانت قد تجاوزت أكثر التوقعات، بما في ذلك توقعات الاحتلال نفسه، ودخلت شهرها السادس مستصحبة شكلها النضالي الأشهر، عمليات الطعن.
سمات ودلالات
تفيض عمليات الطعن بالدلالة، باعتبارها عملا مسلحا شعبيا محكوما بالقدرة الفردية، وهي بهذا الاعتبار تكشف عن أصالة المقاومة بطابعها المسلح في الوجدان الشعبي، ما يعني أن المقاومة بهذا الطابع -في جانب منها- انعكاس لأشواق شعبية، ولا تصدر عن إرادة منظمة مركزية فحسب، فحامل السكين، لن يتردد في استخدام ما هو أشد نكاية وأبلغ أثرا إن استطاع، وهي بهذا الاعتبار أيضا، تكشف عن مفارقة عجز مزدوج، فالسكين منطقة وسطى ما بين المقاومة الشعبية العزلاء، والمقاومة المسلحة الصريحة، وهذا بدوره كاشف عن عجز المجتمع والفصائل عن إدارة مقاومة دون هذه المنطقة أو فوقها، استجابة للشروط الموضوعية الخاصة بهذه المرحلة والتي تميزها عن مرحلة الانتفاضة الأولى وعن مرحلة الانتفاضة الثانية.
فإذا كان الحضور الفيزيائي الكثيف للاحتلال في الانتفاضة الأولى داخل التجمعات الفلسطينية مع انعدام وجود ممثل سياسي للفلسطينيين داخل الأرض المحتلة وانعدام الحاجز الفلسطيني ما بين الشعب والعدو، هو الظرف المميز للانتفاضة الأولى والذي منحها شكلها ونوع أدواتها وعظم من فاعليتها رغم بساطتها، فإن انتفاءه هو الذي ميز الانتفاضة الثانية، وجعل من فرص الالتحام الشعبي المباشر بالعدو أقل إمكانية وأكثر كلفة وأحال إلى المقاومة المسلحة.
وإذا كانت الانتفاضة الثانية تتشابه مع الانتفاضة الجارية في هذا الظرف، فإنها تختلف عنها باختلاف قيادة السلطة الفلسطينية التي امتلكت في الانتفاضة الثانية الجرأة والإرادة على تغيير نمط العلاقة بالعدو، واستعدت حينها للتصالح مع فصائل المقاومة ورفع اليد عنها وإتاحة المناطق "أ" قاعدة لعمل فصائل المقاومة، وساهمت بشكل مباشر في مد تلك الانتفاضة ودفعها إلى الأمام.
فوجود السلطة، ثم موقفها، هو العامل الأكثر فعلا في تعزيز النضال وتحديد أشكاله، ولأن الأمر كذلك، فإن السلطة الفلسطينية، ورغم رفضها لعمليات الطعن، هي التي تتحمل المسؤولية عن إغلاق منافذ النضال الأخرى، بما في ذلك المقاومة الشعبية العزلاء، وهي في الأساس مسؤولة بمنعها الشعب عن تطوير أدواته النضالية، وتثبيطها لفصائل المقاومة والحركة الوطنية عامة، واستمرار تمسكها بالخيارات التي باتت تقر بفشلها، وسلبيتها إزاء اعتداءات الاحتلال الراهنة على شعبنا، ومنها الاعتداءات التي فجرت هذه الانتفاضة، كحرق عائلة الدوابشة، والاقتحام المستمر للمسجد الأقصى.
انتقادات ومغالطات
إن الخلل الذي يتورط فيه مثقفون وسياسيون في نقدهم للأشكال النضالية المتجاوزة في عنفها لأشكال الانتفاضة الأولى، يتمثل في قفزهم على السياقات الفعلية التي أفضت إلى هذه العمليات، وعلى الشروط الموضوعية التي حصرت النضال في هذه المرحلة بهذه الأداة (السكين)، وحالت دون قدرة الشعب أو الفصائل على تطوير الانتفاضة بأي اتجاه آخر يخرجها من طابعها الفردي، ويبسطها شعبيا وجغرافيا وأدوات نضالية، ويبدع فيها لابتكار أنماط متجددة من المواجهة تنسج على نمط الانتفاضة الأولى بما يناسب هذه المرحلة، رغم صعوبة ذلك لأسباب سبق ذكرها.
ولعل أبرز تلك الأسباب وجود السلطة الفلسطينية وموقفها الرافض لأي مقاومة فعلية، عزلاء أو مسلحة، ولأي تظاهرة شعبية جدية، فبدلا من نقد المانع الفعلي لابتداع مقاومة شعبية فاعلة، ينصرف بعضنا لرفض عمليات الطعن، وتأييد موقف السلطة منها، وقصر المشكلة على عجز الفصائل.
في نقد عمليات الطعن، تُساق مغالطات في صور حجج وبراهين، ومنها القول إنها عمليات -بالإضافة إلى كُلفتها على الفلسطينيين، وفقرها من حيث جدواها- غير واعية، بدليل اقتصارها على الأطفال.
هذا النقد، الذي ينفي الوعي عن منفذي العمليات، مشكلته ببساطة، في افتقاره إلى الصحة، إذ إن نسبة الذين تزيد أعمارهم على 18 عاما من منفذي هذه العمليات، بلغت، بحسب بعض الإحصائيات 71.2٪، الأمر الذي يفرض سؤالا محيرا عن السبب الدافع لنقد هذه العمليات بالمغالطة والمعلومة الخاطئة، وصرف المسألة عن ظرفها الصحيح، أي اعتداءات العدو ومنافذ النضال المغلقة سلطويا، لتحميلها لعجز الفصائل، بل والتماهي مع دعاية العدو التي حبست القضية كلها في تحريض الفصائل والإعلام الفلسطيني، والأخطر من ذلك أن هذا الادعاء الذي يوقف عمليات الطعن على الأطفال، يوفر الغطاء الكافي للعدو لاستهداف أطفالنا.
ولأنها عمليات فردية لا تنجم عن تخطيط تنظيمي، فإنه لا يمكن التوجه بموقف مضاد لأحد بشأنها، كما لا يمكن تحميل المسؤولية المباشرة عنها للفصائل، كما هو الحال في أعمال المقاومة المسلحة المنظمة، ولكن يُستعاض عن ذلك من قبل رافضيها بتحميل المسؤولية لعجز الفصائل وتحريضها، وللتأكيد على فاعلية التحريض السلبي، تُصور على أنها حصرا عمليات أطفال، لا يملكون النضج الكافي ولا القدرة على الاختيار الحر، والثابت يقينا أنها ليست كذلك، كما تبين.
والواقع أن عجز الفصائل، نتيجة أكثر مما هو سبب، والدعوة لتطوير أدواتنا النضالية لا بد وأن تعالج السبب بالنقد الواضح والصريح، فهذا وإن كان ضروريا لتجاوز السبب، فإنه على الأقل -حتى وإن لم نستطع تجاوز السبب- ضرورة للفهم واقتراح مقاربات صحيحة، ومدعاة لتقدير النضال الجاري، بدلا من رفضه الذي لا معنى له -مهما تزين- إلا الارتكاس في الواقع والتسليم للاحتلال.