بدأ الأمر بخبر مجهول المصدر نشرته صحيفة الشروق المصرية عن غضب الرئيس المصري من تحرك المظاهرات ضده، اعتراضًا على أزمة الجزيرتين تيران وصنافير، يوم 15 نيسان/إبريل.
مصادر الصحيفة قالت إن السيسي أغضبه التعامل الأمني اللين مع المتظاهرين، وأنه أصدر أوامره بعدم السماح بتكرار تلك المظاهرات في الموعد القادم الذي حددته لنفسها، يوم 25 نيسان/إبريل، لكن الرئاسة المصرية سارعت بإصدار نفي رسمي لهذه الأخبار ومؤكدة أنها لا تزيد عن كونها شائعات غير دقيقة.
في نفس ليلة النفي الرئاسي، مشطت القوات الأمنية، مقاهي وسط البلد بالقاهرة، واعتقلت عشرات الشباب منها، بشكل عشوائي تمامًا، كما جردت حملات مداهمة لعدد كبير من المقاهي وأماكن تجمعات الشباب في مناطق كثيرة أخرى بالقاهرة والاسكندرية، لم يقف الأمر عند ذلك. فما إن انتهت حملات المقاهي، ودخل الليل، بدأت حملات اعتقال ومداهمة مكثفة لبيوت عدد واسع من الناشطين السياسيين، واعتقال من وجدوه منهم.
كان الأمر جنونيًا في تسارعه ليلة الجمعة 22 نيسان/إبريل، أخبار لحظية متجددة عن القبض على ناشط آخر، أو حملة أمنية في مكان جديد، لوهلة بدا أن الدولة تريد اعتقال كل الشباب قبل مظاهرات 25 نيسان/إبريل، وفي العام الذي أعلنه السيسي مسبقًا "عام الشباب".
كان الأمر ليبدو منطقيًا أكثر، لو اقتصر الأمر على حملات اعتقال نشطاء تراهم الدولة خطرًا عليها أو محركين للمظاهرات، لكن الحملات المكثفة على المقاهي في كل القاهرة، تدل على أن الدولة المصرية تحارب أشباحًا لا تعرف بالضبط كيف تنال منهم، هي ترى الشباب، كلهم كشريحة جيلية، شريحة متمردة بأكملها، ولا تستطيع مخاطبتها أو التأثير فيها بأي شكل، رغم محاولتها المتكررة، ويغضبها ذلك، فتُحرك أحيانًا إعلامييها للنيل من تلك الشرائح الجيلية، وأحيانًا أخرى تحرك قواتها لتقبض عليهم في المقاهي، هكذا، وبدون أي تهمة سوى كونهم في سن معينة.
الدولة لا يعجبها الأمر بالتأكيد، فأن تفقد قدرتها على فرض خطاباتها على شرائح كاملة، يعني انتقاصًا حادًا في شرعية حكمها المجتمعي، مهما تأجل تحصيل الاستحقاقات السياسية لهذا النقص.
خطابات الدولة المتكررة عن المؤامرات الكونية على البلد، وعن حروب الجيل الرابع والخامس والسادس والسابع والثامن التي تستهدف البلد، وعن التكتيكات الإخوانية المعقدة لضرب الاستقرار، وعن مجالس إدارات العالم التي تتحكم في الأعاصير والزلازل، كل هذه الخطابات، التي تمكنت الدولة بها من إقناع شرائح جيلية وطبقية معينة بها، فقدت عقلها في سطوة جنون عداوتها ليناير، لا يبدو أنها مناسبة بأي درجة للشرائح الشبابية، لكن لا يبدو أن السلطة المصرية قادرة على إفراز خطابات أخرى تكون أكثر إقناعًا لأي شخص محتفظ بتماسكه العقلي، فهي على ما يبدو قد قررت الاستثمار في الجنون، ولا تستطيع التراجع عن ذلك.
السلطة المصرية كذلك تبدو مرتعبة من أي أشباح جديدة لـ"يناير"، حتى لو بدت تلك الأشباح شديدة الهزال مقارنة بيناير، فالسلطة التي أتت بشرعية مظاهرات 30 يونيو الضخمة، تعلم جيدًا خطورة فتح المجال لمظاهرات جديدة أخرى، فالمظاهرات في نظرها، لو تمكنت من تحقيق مشاهد ضخمة مثل مشاهد يناير أو يونيو، ستضع بذلك السلطة في مأزق شرعية لا تستطيع النجاة منه، وهي لذلك حريصة على منع ذلك من المنبع، ليس فقط بالقبض على من يدعو للتظاهر، بل بالقبض على الشباب أنفسهم، في المقاهي، وفي الشوارع.
في كل مكان يتجمع فيه الشباب، حتى ولو للعب الطاولة ورمي الزهر، تشعر السلطة بالخطر، وتعتقد أنهم يخططون لشيء ما، وإذا ضحكوا على نكتة بصوت عالي، أيقنت أنهم قد فرغوا من التخطيط ويضحكون على مصيرها المقبل، فتتدخل لفض تجمعهم.
السلطة المصرية تضع نفسها في مأزق، فملاحقة جيل كامل، في كل مكان، يعني أنها لن تنتهي من ذلك أبدًا، وستظل تلاحق أشباح يناير، حتى تتمكن منها تلك الأشباح.