23.33°القدس
22.86°رام الله
22.19°الخليل
26.12°غزة
23.33° القدس
رام الله22.86°
الخليل22.19°
غزة26.12°
الأربعاء 31 يوليو 2024
4.8جنيه إسترليني
5.28دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.05يورو
3.74دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.8
دينار أردني5.28
جنيه مصري0.08
يورو4.05
دولار أمريكي3.74

خبر: "نساء راعيات".. "لوحة" مدادها "المرارة" لاغتنام "لقمة عيش"

مع أولى أنفاس الصباح، وبعد أن تنسج الشمس خيوطها موقظة أجساد النائمين المتثاقلة, تجتمع السيدة البدوية "أم محمود"، ولفيف من النسوة اللاتي يرغبن برعي أغنامهن ليبدأن سوية رحلة التجوال بين الأراضي الواسعة متنقلات من منطقة لأخرى يقدن قطيعًا كبيرًا من الأغنام. زوبعة غبار رمادية اللون تلف المكان الذي يمر به قطيع الأغنام والخراف, والذي يُحدث جلبة فتتعطل حركة السير، ويبدأ الأطفال بالالتفاف حوله, فهو مشهد طبيعي بحت يقطع ضجيج المدينة وحركتها وقلَّما تراه إلا في الأماكن النائية التي يعيش فيها البدو أو في مشاهد تلفزيونية تدور حول حياتهم. [title]رحلة الترحال[/title] في واحدة من الأراضي الزراعية الفارغة إلا من بعض الأعشاب, قادت النسوة اللاتي يبلغ عددهن ما يقارب الخمس قطيعهن ليرعى في المكان, وتلتف النسوة حول القطيع من الأمام والخلف والجانبين خشية أن يفر أحدها دون أن يلحظنه. وبعد أن تأمن النسوة بأن القطيع بأكمله أصبح في المكان وبدأ يأكل من الأعشاب الطبيعية النابتة في الأرض تبحث إحداهن عن زاوية بعيدة عن أشعة الشمس تستظل بظلها وتلفظ أنفاسها بعد مسافة طويلة قطعتها سيرًا على الأقدام, وتقف أخرى على مقربة من القطيع تركز نظرها على أغنامه وخرافه, تراقبهم بكثب وأخريات يجدن من تجاذب أطراف الحديث خير أنيس لهن في مثل هذا الوقت. تجلس أم محمود على حجر أسمنتي على مقربة من القطيع وقد غطت وجهها بغطاء أسود اللون لم يظهر منه سوى عينيها والتي بالكاد تستطيع فتحهما بسبب أشعة الشمس العمودية ظهرًا. صمتت السيدة الكبرى بين النسوة اللاتي يقدن القطيع لبرهة من الزمن عند السؤال عن عمرها لتجيب بلهجتها البدوية العامية: "والله ما بعرف يمكن عمري من 45 لـ50 سنة". إجابة "أم محمود" أصابتني بالصدمة، فقد شعرت أن العالم توقف هنا, في الوقت الذي احتلت فيه فلسطين القمة بين الدول التي انخفضت فيها نسبة الأمية، تعثرت بمن يجهلون أعمارهم. تحدثت أم محمود وهي أم لستة أفراد حول عملها في رعي الأغنام لتذكر أنه العمل الوحيد لهن كبدو والذي يلازمهن طوال الحياة ووصفته قائلة أيضا بلهجتها البدوية المميزة: "عملنا صعب ما في راحة طول النهار، بندور في الشوارع مشي على أرجلنا". وخلال ترحالهن بين الأراضي المخضرة لإطعام القطيع يجمعن أيضًا بعض الأعشاب للأغنام الصغيرة المتواجدة في منازلهن، والتي لا تقدر على السير مسافات طوالا كالأغنام الأكبر حجمًا. [title]للنساء فقط[/title] الغريب في الأمر أن الرجال لا يعملون بالرعي -رغم صعوبته- بل هو عمل مقتصر على النسوة فقط، وكان المبرر لذلك حسب أم محمود ومن معها: "الرجال يخجلون من القيام بمثل هذه الأعمال وأن يدوروا "يتجولوا" في الشوارع بين البنيان" ..في أي مكان يذهبون إليه فكان رأيهن أنهن الأنسب للقيام بهذه المهمة. وبعد مضيّ بعض من الوقت اجتمعت بقية الراعيات حول أم محمود ليتجاذبن معها أطراف الحديث ليتضح أنهن صغيرات السن، لكن غطاء وجوههن أخفى ملامحهن، وأخفى معه أعمارهن الفتية. بعد أن رفعن غطاء وجوههن, وبرزت أسنانهن مبتسمات عند سؤالهن عن سبب تغطية وجوههن رغم صغر أعمارهن أجبن: "نغطي وجوهنا فقط بسبب الغبار الذي يخرج من الغنم أثناء السير". [title]"الزوّادة"[/title] برفقة الفتيات كانت "ليلى" ابنة أم محمود والتي لم تعرف عمرها كوالدتها، فتوضح أنها لم تذهب للمدرسة، لأنهم لا يملكون المال لذلك، معبرة عن رغبتها بالدراسة بقولها: "نفسي أتعلم". وتعلق "ليلى" ذات الملابس الرثة على رأسها كيسًا قماشيًّا مغبرًا يصل حتى ظهرها, فذكرت أنها " الزوّادة"، وهو الكيس الذي يحفظ مؤونتهن البسيطة خلال رحلة الرعي والمكونة من بعض الخبز و السكر، وما توفر من خضار كالطماطم والباذنجان, وتحمل رفيقتها مريم كيسًا قماشيًّا آخر يضعن به بعض الآنية (غلاية لغلي الشاي ووعاء للطهي). تضيف "ليلى" بابتسامة خجولة: "رحلي على ظهري وأمشي". وتبدأ رحلة الرعي صبيحة كل يوم جديد، وتنتهي عصر اليوم قبل أن يحمرّ وجه السماء وتبدأ الشمس بالغروب. وكأي يوم عادي تقضي النسوة أوقاتهن بين الأراضي الواسعة على فترات تتراوح ما بين السير والراحة، وكذلك يجدن بعضًا من الوقت يتناولن خلاله ما توافر لديهن من طعام, فكما ذكرن أنهن يأكلن السلطة ويطهين الباذنجان والطماطم ويعددن الشاي بعد أن يشعلن النار بالأعواد الجافة أو قطع الكرتون الملقاة على الأرض. وعبرت الطفلة "مريم" إحدى قريبات أم محمود، وهي طالبة في الصف السادس الابتدائي عن سعادتها بهذا العمل الذي تجد فيه المتعة وتمارسه فقط في يوم الجمعة وأيام العطل الرسمية من المدرسة، تقول: "هذه مهنة الآباء وتوارثناها نحن الأبناء", مضيفة : "خلال الرعي نتحرك بحرية من مكان لمكان لا أحد يضايقنا". [title]متعبة ومريحة[/title] "ناريمان" كانت الفتاة الأكثر وعيًا بين الراعيات؛ فهي تدرس في الصف العاشر في المرحلة الثانوية، حيث ذكرت أن رعي الأغنام مهنة اعتدن عليها ويجدن فيها الراحة, وأنها مهنة متعبة لكنها عرفتهم على الكثير من الأماكن التي جهلوها مسبقًا، وكذلك علمتهم الصبر على الجوع والتعب والسير لمسافات طويلة.. وتقول وهي تهش واحدة من الأغنام: "يجب علينا أن نكافح و نتعب ليعيش قطيع الأغنام". وتحدثت "ناريمان" ذات البشرة السمراء عن بعض عاداتهم كبدو والتي تحتم عليهن الزواج من أقاربهن. ورغم التطور العمراني الحاصل، إلا أن الخيمة لا زالت إحدى ركائز حياة البدو؛ فبحسب الفتاة فإن الخيمة تميزهم عن غيرهم قائلةً: "يعيش الكثير من البدو في بيوت اسمنتية وصفيحية لكن الخيمة ركيزة لا بدّ من تواجدها، فالخيمة هي أصلنا". وتفتقد النسوة لأيٍّ من وسائل الاتصال خلال تجوالهن فهن يكتفين بتواصلهن المباشر معًا, فحول استخدام التكنولوجيا ابتسمت "ناريمان" التي تميزت بخفة الظل لتبين أنهم يستخدمون الجوال لكنه حصري بيد رب الأسرة وقد يحمله بعض الشبان منهم لكن الفتيات لا يلزمهن حمل الجوال حسب تعبيرها. [title]حديث مع الأغنام[/title] وخلال الحديث معهن كانت أعينهن تلاحق القطيع وتحملق فيه ويتلفظن ببعض الأحرف التي تخيل للمستمع للوهلة الأولى أنها طلاسم لا معنى لها, لكن اتضح أنها مصطلحات متعارف عليها فيما بينهم كبدو. وعلا صوت ضحكات الفتيات حينما بدأن بترجمة هذه الأحرف, فاشتركن جميعًا بالحديث فذكرن أن قولهن لكلمة (حي) تعني اتبعيني أو الحقي بي, و(هغ) تعني ابتعدي, و(إرر) تعني اقتربي, أما كلمة (ادرح) والتي يكثرن من استخدامها عند الرحيل تعني اذهبن للبيت, والأمر المستغرب أن القطيع يستجيب لمثل هذه الكلمات فور نطقها ويتوجه بحسب ما أرادت قائدته. وتقول "بسمة" وهي الصغرى بين الفتيات وقد ارتدت ملابس صوفية ملونة ولثمت وجهها بغطاء أبيض طويل: "هذه الكلمات نتعلمها على الفطرة نجد آباءنا يقولونها فنتعلمها ونحفظها مثلهم, والأغنام تفهمها وتتعود عليها". وكذلك أوضحت النسوة أنه رغم كبر حجم القطيع وتشابه أغنامه إلا أن كل واحدة منهن تميز أغنامها, وأيضًا الأغنام تميز بيوتهم عند الوصول للمنزل فتذهب كل واحدة إلى مكانها المخصص. [title]من عمل لعمل[/title] وتقول أم محمود التي ختمت حديثها معنا وهي حانية ظهرها وتنبش التراب بعصاها الطويلة المغروسة في الأرض: "كل هذا التعب ونرجع لبيوتنا والعمل هناك ينتظرنا أيضًا", مضيفة إنهن ما إن يصلن بيوتهن حتى يبدلن ملابس الرعي الرثة المغبرة بملابس نظيفة ليبدأن ما عليهن من أعمال أخرى, فقد حتمت عليهن طبيعتهن الأنوثية المزيد من الأعمال المنزلية التي تنتظرهن بعد عناء يوم شاق كالطهي والغسيل والتنظيف وإعداد الخبز؛ فتقول أم محمود وقد غزا الحزن ما ظهر من تقاسيم وجهها النحيل وهي تضع إحدى يديها المشققتين على خدها: "ماذا نفعل هذه حياتنا؟!". ومع اقتراب موعد الرحيل بدأ النسوة الراعيات بشد الرحال وجمع القطيع الذي حظي على نصيب وافر من العشب والأشواك بعد ساعات من الرعي, وتوزعن بينه ليحكمن قيادته كل واحدة تهشه بعصاها من إحدى الجهات حتى تحركن وتحرك القطيع مخلفًا وراءه زوبعة الغبار رمادية اللون ذاتها. قد يستهوي الكثير من الفنانين رسم هذا المشهد الطبيعي الغني بالمشاهد الحية, راعية الغنم البدوية سمراء البشرة ذات الغطاء الطويل, والذي تلفه حول وجهها وجسدها, ملابسها الرثة وكيس زوادتها الذي تعلقه على رأسها, وعصاها الطويلة التي تحملها بيديها المشققتين لتهش بها غنمها, فبنظرة الرسام هي لوحة "لا تعوض"، لكن اللوحة والألوان تبقى مجرد صورة تخلو من تفاصيل حياتهن المغموسة بمشقة الحياة.