18.64°القدس
18.44°رام الله
17.75°الخليل
24.42°غزة
18.64° القدس
رام الله18.44°
الخليل17.75°
غزة24.42°
الثلاثاء 08 أكتوبر 2024
4.95جنيه إسترليني
5.35دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.15يورو
3.79دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.95
دينار أردني5.35
جنيه مصري0.08
يورو4.15
دولار أمريكي3.79

شهداء غزة تعددت الأسبابُ والموتُ واحدٌ

مصطفى اللداوي
مصطفى اللداوي
مصطفى اللداوي

كأن سكان قطاع غزة على موعدٍ مع الموت المحتم، يتعاقدون معه فيأتيهم من كل مكانٍ، ويفجعهم بأنفسهم كل يوم، ويلتزم تجاههم فلا يتأخر ولا يتراجع، ولا يقل ولا ينقص، ولا يتردد ولا يمتنع، بل يزور الجميع ولا يفرق، وينال من كلٍّ ولا يميز، ويزور بالجملة والمفرق، ويقتحم على الآمنين والمطمئنين خلواتهم فيمزق هدوء عيشهم، وطمأنينة بالهم، ويطال الصغار والكبار والأصحاء والمرضى، والمصابين والجرحى، وكل ساكنٍ في القطاع ولاجئٍ إليه ومقيمٍ فيه أو عابر سبيلٍ، فكلهم في مواجهة الموت الذي يأتيهم بغتةً سواء، وحظهم منه وافرٌ وغامرٌ، وإن تعددت أشكاله وتباينت وسائله؛ فإن نتيجته واحدة لا تتبدل ولا تتغير، ولا تخفف من وقعها ولا تقلل من أثرها، إذ لا شيء يزين حقيقة الموت وفاجعة الفقد.

حال الغزيين تجاه الموت كحال أي أمةٍ وشعبٍ آخر، فهم لا يختلفون في طبيعتهم عن البشر، ولا يتميزون من الخلق الذين كتب عليهم الفناء، فهم يموتون كما يموت غيرهم، وتنتهي آجالهم كما سواهم، لا فرق، ولا يوجد من يعترض على الموت حقًّا وإرادة، وقدرًا وخاتمة؛ فهذا أصلٌ من أصول ديننا، وقاعدة من قواعد إيماننا لا نحيد عنها ولا نكفر بها، وسكان القطاع الذين يناهز عددهم المليونين يمثلون شعبًا صغيرًا أو مجتمعًا كبيرًا، يذوق ما تذوقه كل التجمعات الأخرى من الموت والحياة.

لكن الموت في قطاع غزة كثيرٌ جدًّا، وحاضرٌ دومًا مقارنة بغيره من المجتمعات، إذ تطالعنا الأخبار الصادرة منه عن وفياتٍ عديدة تحدث كل يومٍ فيه، في الشمال والجنوب وفي الوسط، وإن كانت بعضها وفيات طبيعية لتقدمٍ في السن أو لانتهاء الأجل فإن أسباب غيرها كثيرة، وهي أسبابٌ محزنة وموجعة، ومؤلمة قاسية، وتبعث على التساؤل والاستغراب، وتدعو للسؤال والتحقيق، وتفرض على الباحثين والمهتمين التوقف أمامها ودراسة أسبابها ومعرفة ظروفها وعوامل انتشارها وتمددها، وأسباب العجز عن مواجهتها والتصدي لها.

فالحرائق الكثيرة التي تشتعل في بيوت الغزيين وتحرق منازلهم تارةً تشتعلُ بسبب شمعةٍ تجاهد من أجل تبديد ظلام الليل البهيم، وإنارة البيوت التي طالت عتمتها، فإذا هي تحرق البيوت وتقتل الصغار والكبار معًا، وتسبب في خنق الأطفال والرضع، أو بسبب ماسٍ كهربائي يتسبب في اشتعال البيوت وحرق بعض سكانها، وهي الكهرباء التي لا تأتي إلا قليلًا، وإذا جاءت فإنها تحرق أو تقتل، وقد وقعت الكثير من الوفيات نتيجة الصعق الكهربائي في أثناء محاولة بعض إعادة وصل التيار الكهربائي، الذي كانت صاعقته أقرب إلى المواطنين من نوره، ومع ذلك إن هذه الحوادث تتكرر، وعداد ضحايا الكهرباء يزداد.

أما طواقم الدفاع المدني فهي أضعف من أن تواجه حوادث الحرائق واشتعال النيران في أكثر من مكانٍ؛ فقدراتها محدودة وإمكاناتها قليلة، ومعداتها وآلاتها لا تكفي لتغطية حاجة القطاع ومواجهة تحدياته، الأمر الذي يتسبب في حدوث حالات وفاةٍ نتيجة عجزها أو تأخرها في الوصول، أو بسبب عدم قدرتها وقلة حيلتها أو نفاد موادها اللازمة لإطفاء الحرائق، وإن بعض عناصر الدفاع المدني يلقون حتفهم في أثناء محاولتهم إطفاء الحرائق، فضلًا عن أن جيش العدو يستهدفهم ويقصفهم في أثناء تأديتهم أعمالهم، مع الشارة التي يحملون، والبزة التي يلبسون، والسيارات التي تضيء بإشارة الدفاع المدني.

أما البحر الملاصق لكل قطاع غزة فهو يتربص بسكانه، ويقتنص أبناءه، ويغرقهم بلا رأفةٍ ولا رحمةٍ، وأحيانًا يغرق الأشقاء وأبناء العائلة الواحدة، ويطوي في جوفه الصغار والكبار والوافدين والمقيمين، ولا تقوى فرق الإنقاذ على إنقاذ بعضهم، ولو استنجدوا بهم، أو حالوا الوصول إليهم، وذلك لنقص الإمكانات والعجز في الآلات ووسائل الإنقاذ والتدخل السريع.

حوادث الطرق وحالات الدهس والتصادم بين السيارات وانقلاب بعضها وتدهورها بسبب السرعة وعدم الانتظام والالتزام أحيانًا تحصد سنويًّا المئات من سكان قطاع غزة، مع مساحته الصغيرة، وشوارعه القصيرة، وكثرة الحفر فيها ووفرة المطبات التي يصنعها السكان للتقليل من الحوادث المرورية، والظلام الدامس الذي تعيش فيه بسبب انقطاع التيار الكهربائي، فمع ذلك إن نشرة إدارة شرطة المرور وإدارة المستشفيات تحمل كل يومٍ أنباءً عن حوادث جديدة ووفياتٍ كثيرة، وهي تشمل مختلف فئات السكان، إذ يقتل الأطفال دهسًا وفي أثناء انقلاب السيارات أو تصادمها، تمامًا كما يقتل غيرهم، وهم كثير.

يحاول سكان قطاع غزة الانتصار على مشاكلهم، والصمود في وجه العقبات التي تعترضهم، وتعويض نقص الوقود، ومواجهة الحصار وارتفاع الأسعار بلجوئهم إلى امتلاك وقيادة الدراجات النارية، التي توفر الوقود وتحقق السرعة الممكنة، ويسهل استخدامها والتنقل بها، وتمكن مستخدمها من الوصول إلى مكان عمله بسرعةٍ وسهولة، لكن حوادث الدراجات النارية غدت كثيرة وقاتلة، حتى أصبحت الدراجة النارية أسرع وصفةٍ للموت، وأدق وسيلةٍ للقتل، وسجل ضحاياها أرقامًا قياسية، ومازالت حوادثهم في ازدياد ومشاهد القتل التي يقضون فيها مروعة.

وفي المستشفيات والعيادات حالاتُ وفاةٍ كثيرة بسبب نقص الدواء، أو انقطاع الكهرباء عن المعدات الطبية، أو العجز في القدرات، وغياب التخصصات، وعدم القدرة على إجراء عملياتٍ جراحية فورية وعاجلة للحالات الملحة، وفي الطريق إلى مستشفياتٍ دوليةٍ عبر مصر يموت العشرات من المرضى وهم ينتظرون دورهم، أو يقفون على المعبر انتظارًا لفتحه، وكثيرًا ما استقبل الغزيون موتاهم في معبر رفح، وهم الذين أوفدوهم للعلاج والتخلص من الأمراض التي يعانون منها، لكنهم عادوا إلى بيوتهم في توابيت محمولة.

إلى جانب ذلك هناك جرائم قتلٍ كثيرة تقع في الشارع الغزي، بعضها بقصد السرقة، وأخرى للثأر والانتقام، وغيرها تحدث تسويةً لمشاكل قديمة، وأحيانًا بسبب خلافاتٍ مستجدة على شركاتٍ وأموال، وقد حدثت جرائم قتلٍ عديدةٍ في العائلة نفسها وبأيدي بعض أفرادها، ومنها تقع نتيجةً لحالات الاكتئاب والضيق والضغط النفسي والمتابعة والعجز عن تلبية الحاجات، وتوجد جرائم قتلٍ لإخفاء جرائم أخرى كالاغتصاب والسرقة، أو خشية إفشاء الأسرار وكشف حقائق مضرة ببعض، وغير ذلك.

لكن الاحتلال الإسرائيلي البغيض هو سيد القتل والآمر به في قطاع غزة؛ فهو السبب المباشر في كل ما يجده سكان القطاع بعيدًا عن انتهاء الأجل ودنو ساعة الموت، فهو الذي يقف وراء أغلب الأسباب، بل إنه يخلقها ويعمقها، ويزيد فيها ويطيل عمرها، وهو الذي يرتكب جرائم القتل بالجملة، ويعتدي على السكان بالقوة، ويشن عليهم الحروب المدمرة، ويقتل منهم في كل عدوانٍ آلافًا من سكان قطاع غزة، ثم يواصل بالحصار جرائمه، ويقتل بالحرمان المئات، وينهي حياة المرضى والمصابين وعشرات المواليد وأمهاتهم وغيرهم، وما زال بسياسته الغاشمة يسبب للسكان حالات الإحباط واليأس والجوع والفقر والمرض والعوز والحاجة والضيق والعجز وضيق ذات اليد، ويوفر بها وبغيرها كل أسباب الموت والقتل التي يتحمل مسؤوليتها، ويجب أن يحاسب عليها.

ختامًا حتى لا يكون ما قدمنا مخالفًا لعقيدةٍ أو اعتراضًا على حق نقول: إنه الموت والفناء والنهاية المحتومة التي لا فرار ولا نجاة منها، مهما طال العمر وتأخر القضاء وتعددت الأسباب؛ فإن ساعة الحين قادمة لا محالة، في زمانٍ ومكانٍ في اللوح المحفوظ من قديمٍ مكتوبٌ، حدده رب العزة قبل الخلق، وكلف ملائكته بتنفيذه، فهذا قدرٌ نؤمن به ولا نجحده، ونعترف بأنه مصير كل حيٍّ إلا الله (سبحانه وتعالى)، فهو الباقي حيث لا بقاء لغيره جل شأنه، والخالد حيث لا خلود لسواه (سبحانه)، وكلٌّ ما عداه من الخلق ميتٌ لا محالة، وزائلٌ لا مفر، وعلى هذا تمضي الحياة وتتعاقب الخلائق.