23.57°القدس
23.28°رام الله
22.19°الخليل
26.47°غزة
23.57° القدس
رام الله23.28°
الخليل22.19°
غزة26.47°
الإثنين 07 أكتوبر 2024
5جنيه إسترليني
5.38دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.19يورو
3.81دولار أمريكي
جنيه إسترليني5
دينار أردني5.38
جنيه مصري0.08
يورو4.19
دولار أمريكي3.81

(إسرائيل) إذ تعترف بجريمتها وتقر بخطئها

مصطفى اللداوي
مصطفى اللداوي
مصطفى اللداوي

قد يتبادر إلى الذهن أن هذا خلقٌ كريمٌ من دولة الاحتلال، وأنه يدل على مناقبيةٍ دولية عاليةٍ، ومسؤولية إنسانية رفيعةٍ، وجيشٍ أخلاقي قيمي، وقيادة جريئة وشجاعة، جعلت من الكيان الصهيوني يعترف إذا أخطأ، ويعتذر إذا ظلم، ويتراجع عن موقفه إذا عرف الحق، ويحاسب ويعاقب من يخرج من جنوده عن القانون، بدليل أنه اعترف بأنه أخطأ عندما قتل الطفل الفلسطيني محمود بدران فجر يومٍ من أيام شهر رمضان الفضيل غرب مدينة رام الله، وأصاب أربعة أطفالٍ آخرين بجراحٍ مختلفةٍ، عندما فتحت دوريةٌ النار عليهم عشوائيًا وهي تبعد عنهم مسافة كبيرة، وقد أعلن أفيخاي أدرعي الناطق باسم جيش الاحتلال وغيره أن مقتل الطفل بدران كان نتيجة خطأ وسوء تقدير من مسؤول الدورية العسكرية التي ظنت أن هؤلاء الأطفال يشكلون عليهم خطرًا.

لا يخدعنا هذا الاعتذار، ولا يضحك علينا الاحتلال به، فما تصريحاته الخبيثة إلا لذر الرماد في العيون، واستغلال الحادثة لتلميع حال كيانهم المتهم، وتحسين صورة جيشهم القاتل، وإظهار أنفسهم على غير حقيقتهم، إذ لم يكن الطفل محمود بدران هو الضحية الأولى، ولا هو الطفل الوحيد الذي قتله جيشهم دون مبرر، فهناك مئات الأطفال الذين قتلهم جنوده وهم في بيوتهم أو في أحضان أمهاتهم، أو في مدارسهم وعلى مقاعد دراستهم، أو بينما هم في طريقهم إلى المدرسة أو أثناء عودتهم إلى البيت، ويشهد على جرائمهم المجتمع الدولي ومؤسساته، ومنظمة اليونيسيف المهتمة بشؤون الأطفال وأحوالهم، وتعترف منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية كـ"بتسيلم" وغيرها، أن جيش كيانهم لا يفرق بين طفلٍ وغيره.

بل إنهم قتلوا أطفالًا رضعًا، ما زالوا يرضعون الحليب من صدور أمهاتهم، وبعضهم لم يتم شهره الأول، وغيرهم لم يتعلم النطق بعد، وبينهما وأكبر منهما الكثير، من الأطفال الذين أدمى مقتلهم قلوبنا، وأوجع نفوسنا، وجعل حسرتنا عليهم كما حزننا كبيرة، ولا ينسى الفلسطينيون الطفلة إيمان حجو وعشرات مثيلاتها، ممن قتلهم العدو بصورةٍ مباشرةٍ، بطلقات بنادقهم أو بقذائف مدافعهم، أو بصواريخهم التي تحصد عشرات الضحايا دفعةً واحدة، وتجمع في جرائمها البشعة الأم والطفل والشيخ والبنت، دون أن يكون هناك مبررات لقتلهم، أو داعٍ لاستهدافهم، اللهم إلا الحقد والكراهية، والعداوة والعنصرية المغروسة في صدورهم، والعميقة في قلوبهم، والمتوارثة عبر أجيالهم، والمنصوص عليهم في تلمودهم وبقية كتبهم.

ولكن الأخطر من تلميع الصورة وبيان المناقبية لجيشه والمسؤولية لدى قادته، فإن العدو باعتذاره الخبيث عن القتل الخطأ، فإنه يبرر لنفسه القتل الآخر، ويبين للرأي العام الدولي أنه لا يقصد قتل المدنيين الآمنين المسالمين، الذين لا يشكلون خطورةً عليه، ولا يفكرون في انتهاك أمنه والاعتداء على سلامة مواطنيه وممتلكاتهم، وإنما يقتل من يهدد أمنه، ويعتدي على مواطنيه، ويحاول طعنهم أو دهسهم، أو يخطط لإطلاق النار عليهم أو اختطافهم، فهؤلاء هم المستهدفين من جيشه ومن أجهزته الأمنية، وعلى العالم أن يتفهم ذلك، إذ إنهم بإطلاق النار عليهم وقتلهم، فإنهم يدافعون عن حقهم في الحياة والوجود، وهو ذات الحق الذي تمارسه كل دول العالم وحكوماتها، وهو حقٌ مشروعٌ ومقبولٌ ومعترفٌ به.

من حقنا أن نتساءل لماذا جاء اعتذار جيش الاحتلال في هذا الوقت بالذات، ولم نشهد مثله إلا نادرًا، وقد كان حريًا بالجيش "الأخلاقي" أن يعتذر عن حوادث أخرى كثيرة مماثلة، وأن يتجنب تكرارها، وأن يضبط سلوك جنوده وضباطه الذين يتعمدون ارتكاب مثل هذه الجرائم، بل ويخططون لها ويتباهون ويتسابقون في اقترافها، حيث لم يعترف بالمسؤولية عن هذه الجرائم وزراء الحرب السابقين، ولا قادة الأركان الذين لا يترددون أحيانًا في انتقاد سلوك شعبهم وأداء حكومتهم، رغم أن الحوادث المشابهة كثيرة، وقد يكون بعضها أكثر عنفًا وبشاعة، وأشد عنصريةً وأكثر كرهًا.

فهل من المعقول أن يأتي اعتذار جيش الاحتلال في ظل وزيرِ حربٍ جديدٍ جاء للقتل، واستدعى للحرب، وتهيأ للمواجهة، وهو الذي لا يفرق بين فلسطيني وآخر، ولا يعترف بحق الحياة إلا لمن غادر فلسطين وآثر العيش خارجها، فأن يأتي هذا الاعتذار في عهده، وفي الأيام الأولى لتسلمه منصبه الجديد، فهذا يعني أنه يخطط لشيء آخر، ويعد لجريمةٍ أكبر، فهذا الرجل الكاره الحاقد اليميني المتطرف لا تنطلي علينا تصرفاته، ولا نطمئن إلى اعتذاره، ولا نركن إلى سياسته، فلعله يعد للدغةٍ أخرى تكون قاتلة وشاملة، فهو ليس إلا أفعى خبيثة، تحمل سمًا زعافًا، وما تسلل إلى هذا المنصب إلا ليقتل ويطرد.

من المتوقع أن تفتح قيادة أركان جيش العدو تحقيقًا في الجريمة، وذلك إتمامًا للمسرحية التي بدؤوا فيها، إذ لا يكفي الاعتذار لتحقيق كل الأهداف المرجوة، والتي هي أهداف خارجية أكثر مما هي داخلية، كما أن المهنية المسؤولة تتطلب بعد الاعتذار تفسير ما حدث، ومعرفة الأسباب والدوافع، والتعرف على الكيفية التي وقعت فيها الجريمة، وبيان ملابساتها، والخروج بخلاصاتٍ منطقيةٍ واستنتاجاتٍ عاقلةٍ، بعد اقتراح ضوابط ونظم تحول دون تكرار مثل هذه الخروقات، التي هي في حقيقتها سياسة عامة وليست خروقات فردية.

كما أن من المفروض أن يفضي التحقيق إلى إدانة الجنود الذين أطلقوا النار على الأطفال والضابط المسؤول، وإلى التوصية بمحاكمتهم وفرض عقوبةٍ عليهم، لتكون رادعةً لهم وزاجرةً لغيرهم، وإلا فما قيمة التحقيق وما جدوى الاعتذار، لكن التجارب السابقة جميعها، مع التحقيقات التي يجريها جيش الاحتلال وهيئاته الرقابية والقانونية، تشير إلى سراب تحقيقاتهم، ووهم من يأمل فيهم ويتوقع منهم مصداقيةً ومسؤولية، فهؤلاء يحققون لغايةٍ في نفوسهم تخدم مصالحهم وتعود بالنفع عليهم هم فقط، وإلا لماذا تتكرر كل هذه الحوادث يوميًا؟

ترى هل ينتظر ذوو الشهيد محمود بدران من العدو اعتذارًا وإنصافًا، أو تعويضًا وتكريمًا، وهل سيعيد الاعتذار لهم ما فقدوه، أم أنهم يعتبرون ابنهم شهيدًا ككل شهداء فلسطين، يحتسبونه عند الله سبحانه وتعالى، ويرجون له الجنة والفردوس الأعلى، ويقبلون من شعبهم فقط العزاء، ولا ينتظرون من الاحتلال إلا المزيد من العداء؟