لأول مرة يكاد الصحفيون الفلسطينيون -باستثناء المحسوبين على حركة فتح- يجمعون ويدافعون بصوت واحد عن زميلهم المراسل الاقتصادي لوكالة "الأناضول" التركية محمد عبد الله خبيصة، بعد اختطافه من جهاز الوقائي في ساعة متأخرة من مساء أمس الاثنين من منزله برام الله، على خلفية اتهامه بنشر أخبار مغلوطة عن مصروفات وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا".
وأفرج الجهاز عن الزميل خبيصة ظهيرة اليوم الثلاثاء، إذ أجبر على ما يبدو -وفق ما نشر بعض الزملاء- على الاعتذار وعائلته لرئيس هيئة الإذاعة والتلفزيون أحمد عساف بصفتها المسئولة عن الوكالة التي تتبع للإعلام الحكومي.
زوجته قالت إن عناصر من جهاز الوقائي حضروا إلى بيتهم عند الساعة الـ12 ليلاً، وفتشوا غرفة النوم وغرفة المعيشة وصادروا الأوراق الخاصة به وبعمله الصحفي من ضمنها بطاقته الصحفية.
أرقام مالية
جاء الاعتقال بعد سويعات فقط على نشر خبيصة وهو المتخصص بالشأن الاقتصادي على صفحته في موقع "فيسبوك" أرقاماً تخص مصروفات وكالة "وفا" قال إنه استقاها من وزارة المالية، حيث تبلغ مصروفات الوكالة في النصف الأول من العام الجاري 60 مليون شيقل، لكن المفاجأة أن الوزارة بعد اعتقال خبيصة عادت وعدلت من الأرقام.
وجاء في البيانات التي نشرتها وزارة المالية، عن مصروفات وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا)- طبعا قبل التعديل-:
- إجمالي النفقات 60.8 مليون شيكل في النصف الأول 2016.
- منها 35.7 مليون شيكل رواتب وأجور في النصف الأول 2016.
- 3.23 مليون شيكل مساهمات اجتماعية (تبرعات) في النصف الأول 2016.
- 16.2 مليون شيكل سلع وخدمات (نثريات ووقود وفواتير.. الخ) في النصف الأول 2016.
- مصروفات الوكالة تراجعت بنحو 7 ملايين شيكل مقارنة مع الفترة المناظرة من 2015.
الوزارة تُعدل
وبالفعل، عدلت وزارة المالية، بند نفقات وكالة "وفا"، في تقريرها الشهري بعد أن أثارت الجدل عقب تداول الرقم الضخم في وسائل الإعلام.
وكان التقرير النصف سنوي الذي صدر أمس، قد نشر بأن نفقات الوكالة النصف سنوية تبلغ 60 مليون و880 ألف شيقل، قبل أن يتم تعدلها ظهر اليوم الثلاثاء من خلال فصل نفقات هيئة الإذاعة والتلفزيون البالغة 53 مليون شيقل، عن نفقات وفا البالغة 7 مليون شيقل. (مرفق صور تظهر الأرقام قبل وبعد التعديل).
ولم تقدم وزارة المالية اعتذارا عن خطئها، أو تشر للتعديل بشكل واضح في بيان صحفي، في المقابل حملت "وفا" الصحفي خبيصة مسؤولية نشر المعلومات بدون تدقيق.
استياء عارم
نقاط عدة أثارت استياءً عارما لدى الصحفيين والإعلاميين، أولها أن ما نشره محمد كان منقولا بشكل كامل من موقع وزارة المالية وهو ما وضحه في منشوره، مع صورة عن الموقع.
إضافة إلى أن ما نشره -ولو على فرض كان مغلوطا- لا يستوجب مداهمة منزله في ساعة متأخرة من الليل واعتقاله بهذه الطريقة مثل المجرمين تماما، أمام زوجته وأطفاله الصغار.
والأهم هو السؤال، لماذا لم توجه وكالة وفا الاتهام بالتقصير أو الخطأ في نشر المعلومة لوزارة المالية!!، بل للصحفي الذي نقل عنها. وتأكيدا على خطأ الوزارة فقد عملت على تعديله بعد الضجة التي أثيرت حوله.
والأخطر بنظر جموع الصحفيين هو الطريقة التي تعاملت بها النقابة مع الحدث، إذ لم تصدر بيانا يستنكر اعتقال خبيصة، بل ذهب النقيب ناصر أبو بكر برفقة الزميل خبيصة وعائلته ليعتذروا لعساف، وقيام مدير مكتبه بنشر خبر الاعتذار مع صورة، ما يشكل إمعانا في إذلال الصحفي وعائلته وتصوير القضية على أنها شخصية.
رواية للحدث
وكتبت زوجة محمد على صفحتها قائلة: "المؤلم أكثر .. بأن من كان يتولى مهمة تفتيش بيتي جمعتني وإياه مقاعد الدراسة في الجامعة يوما ما .. كنت أسال نفسي من يعطيهم الحق لنبش ذكرياتي .. وأخذ (فلاشة) فيها فيديو لحفل خطبتي دون حجابي .. تحمل صوري لأجمل أيامي؟ .. من يعطيهم الحق لتخويف طفلتي بعمر السنتين؟ ... هل حماية الوطن تكون بأخذ زوجي وأنا بأمس الحاجة له وطفلتي إيلياء لما يتجاوز عمرها 25 يوم؟ ... والذنب كله أنه نقل البيانات من مجرد أرقام بلا معنى إلى بيانات واضحة تناسب جهل عقولنا وسباتها غير المنتهي عن واقع مميت.. الحمد لله ع سلامتك يا أغلى ما أملك، وشكرا لكل شخص ساندني وساند زوجي محمد".
تدخل الأمن!!
أما أحد الزملاء فكتب "ما حدا فينا مخول يحكي بالنيابة عن محمد... بس بصراحة من مراقبتنا للوضع السيناريو الذي جرت فيه الأمور فيه فرض للقوة الأمنية وفرض هيبة. حتى وإن كان محمد استعجل، فهل هذا مبرر لاقتحام بيته ليلا واعتقاله بهذه الصورة وكل ما يلحق بذلك".
يضيف "المسالة ليست قضية محمد الشخصية.. القضية هي تعامل السلطة مع الصحفيين وتعامل النقابة مع الأمر وتعامل المؤسسات الإعلامية مع الصحفيين.... هنا القضية".
مقدمة البرامج في فضائية "فلسطين اليوم"، جيهان عوض، فعلقت غاضبة: "ما دخل عائلة الصحفي لتعتذر؟ ونقيب الصحفيين ماخدهم بنفسه؟ طب لنفترض غلط.. شو مع اعتقاله بالليل متل الحرامية ؟؟ إذا عندنا موقف لازم يكون جماعي ومن النقابة مش من حدا تاني لما النقابة تصير جزء من مشهد إذلال الصحفي .. بتلزمناش اقتراحي: انسحاب بشكل جماعي من النقابة".
أما الزميلة نائلة خليل، فوجهت رسالة للرئيس محمود عباس، جاء فيها: (لا نريد حرية سقفها السماء..لا نريد سقف ولا سماء كل ما نريده اعتقلونا من المكتب..من الشارع. .من أي مكان ..لا نريد لأطفالنا هذه الذكريات).
اصطياد بالمياه العكرة
أما المكتب الحركي للصحفيين، فاستغل ما جرى للتطبيل والتزمير والقول بأنه الهدف من وراءه "التشهير بالوكالة بما يتساوق مع حملة التحريض التي يشنها الإعلام الإسرائيلي وأصحاب الأجندات المشبوهة التي تستهدف الإعلام الوطني عموما".
وادعى أن "وفا" رأس مثلت الحربة في مواجهة الحرب الإعلامية الإسرائيلية وحلفائها منذ تأسيسها عام 1972 وحتى اللحظة، من خلال طاقمها المهني والوطني.
بل ذهب إلى أبعد من هذا في بيانه الذي نشره اليوم، بالتأكيد "أن التوقيت الذي اختيرت فيه هذه الحملة ليس عبثا، ويفتح تساؤلات كثيرة حول الكم الكبير من الاصطفاف من المواقع الإعلامية المأجورة التي تخدم أجندات غير وطنية وفئوية ضيقة لتشويه النافذة الرئيسية للعالم للاطلاع على واقعنا الفلسطيني".
واكتفى صحفيو فتح بالطلب من وزارة المالية بتوضيح ما يتم تداوله من بيانات مالية.
موقف وفا
من جانبها، نشرت وكالة "وفا" بياناً توضيحياً اليوم الثلاثاء، نفت فيه أن تكون الأرقام التي نشرها الزميل خبيصة صحيحة.
وجاء فيه أنه "بناء عليه توجهت الوكالة للقضاء لتبيان الحقيقة للرأي العام، مع التأكيد على أن أبوابنا مفتوحة للجميع، وكنا نتوقع أن يسأل الصحفي المذكور الوكالة قبل أن ينشر أرقاما لا صلة لها بالحقيقة، وتشكل إساءة واضحة لهذه المؤسسة الوطنية التي تركز جل عملها واهتمامها على دعم المشروع الوطني وكشف جرائم الاحتلال ونقل معاناة شعبنا وإيصال الخبر الفلسطيني إلى أبعد مدى.
وأوضح البيان: "الموازنة الحقيقية للوكالة تبلغ 20.784 مليون شيقل سنويا، بما يشمل كافة الرواتب والأجور والنفقات التشغيلية والمساهمات الاجتماعية، والنفقات التطويرية، إضافة إلى الأصول غير المالية وفق قانون الموازنة العامة لسنة 2016، وأن الصحفي المذكور ضاعف الرقم أكثر من 6 مرات لأهداف يجري العمل على معرفتها من خلال القضاء الفلسطيني".
