قابلناه في غزة، شاب تبدو عليه ملامح الوقار والسماحة. قالوا لنا: هذا عبادة بلال، أحد الأسرى المحررين، فهتفت له قلوبنا قبل ألسنتنا مرحبة فخورة، ولكن الاحتفال الشعوري توقف فجأة، فعبادة ضرير فقد بصره في السجن من التعذيب. توقف الاحتفال وحلّ محله الشعور بالأسى على هذا الشاب الذي فقد حبيبتيه في مطلع عمره وأظلم بصره في بداية طريقه. إلاّ أنّ الأسى لا يلبث ولا يستمر إلاّ هنيهة، فبمجرد أن يتكلم الأسير المحرر عبادة بلال ينسى هو مأساته ويُنسي من حوله، فلا يرون فيه إلاّ جبلا شامخا وهمة متوقدة وعزيمة لا تعرف الانكسار. نجح عبادة بأن يخرج من حبس البصر لتتوقد بصيرته، وخرج من أسر ذاته وألمه وإبعاده عن أهله وزوجته إلى التوحد الكامل والخدمة المستمرة لقضية أخوانه الأسرى، الذين ما زالوا يقبعون في سجون الاحتلال، فهو في قيامه وقعوده وحركته وسكونه خير سفير يتمثّل قضية إخوانه ونضالهم. أوصانا عبادة بلال أن نبلغ من خلفنا أن يقفوا مع الأسرى في يوم الأسير 17-4، وفي كل تحركاتهم ويسندوا ظهورهم ويحرّكوا قضيتهم إعلاميا في الحرب التي يخوضونها مع أعتى سجون العالم لتحسين ظروفهم المعيشية وإنهاء عقوبة العزل الانفرادي، الذي يعتبر من أشد أنواع العقوبات، فقد سمي الإنسان إنسانا لأنه يأنس بالناس وعزله عنهم لمدة طويلة قد يؤدي إلى إصابته بالأمراض النفسية والجسدية، ومع ذلك هم صابرون صامدون يستعينون على الوحدة والوحشة والظلمة بأنوار الصلاة والقرآن والذكر والأمل بنصر الله القريب. 2400 أسير يبدؤون اليوم حربا من نوع آخر يعترف بها العالم أجمع كأحد أشكال المقاومة السلمية بالإضراب المفتوح عن الطعام، طلبا لحقوقهم البشرية داخل المعتقلات، وهي خطوة محكوم عليها بالفشل ما لم يساندها دعم شعبي وإعلامي، فدولة العدو الصهيوني ليست كغيرها تعترف بالمعاهدات الدولية وحقوق أسرى الحرب والإنسان، ولا يحرّكها سوى ضغط إعلامي يتبعه ضغط عالمي، ولا يؤذيها سوى سوء سمعتها في المجتمع الدولي. الإضراب عن الطعام خطوة عظيمة وخطيرة تهدف إلى تخفيف معاناة الأسرى الذين ما وجدوا خلف القضبان إلاّ لنتمكّن أن نحيا نحن أحرارا كراما خارجها، وما خروج الأسرى في صفقة وفاء الأحرار بعد أن بلغت مدة محكومياتهم آلاف السنين إلاّ درس رباني أنّ الظلم لا يدوم مهما استطال زمنه، وأنّ إرادة المظلوم تنتصر دائما على ظالمه. لقد فقد عبادة بلال بصره في الأسر، وولدت سمر صبيح ابنها براء في السجن قصرا وهي مكبلة اليدين والقدمين، وفقد خضر عدنان صحته، وحرمت هناء شلبي من أسرتها وبلدها، وتفرّق الأزواج عن الزوجات والآباء عن الأبناء، ومات الآباء وأبناؤهم في السجن، وسجلّ التضحيات يطول، فماذا ننتظر لنتحرك وندعم من ضحوا بحياتهم وحريتهم ليسدوا ثغرة تخاذلنا؟! إنّ مرور 45 يوما على من يضرب عن الطعام هو بمثابة إعلان طبي عن وفاته واحتسابه في عداد الشهداء، فهل نرضى أن نكون بسكوتنا سببا في موتهم؟! سيسألنا الله يوم القيامة استنصرك عبدي فلم تنصره، استنصرك عبدي فلم تنصره، فماذا يكون جوابنا لرب العزة؟
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.