صرخت وسط قاعة المحكمة وتعالى صراخها عندما نطق القاضي بالحكم، وقالت بأعلى صوتها (ليس وحده المجرم)، وانحنت على نفسها وأخذت بالبكاء ثم غابت عن الوعي، كل ذلك والجميع يقف مذهولاً مصدوماً مما يجري فما كان من أحدهم إلا أن قام وحملها يجرجر ثوبها من خلفها ويصرخ سيارة إسعاف أيها البلهاء، الحقيقة تكاد أن تموت، هيا احملوها انقلوها إلى الطبيب. ما أن وصلت المشفى وإذا بها لا تنطق سوى الكلمة التي رددتها في قاعة المحكمة ( ليس وحده المجرم )، قولها من شدة الإعياء كان همساً واقتربت أذني من فمها كي تعي ما تقول لأدرك أنها تلك الكلمات، قلت لها بصوت مخنوق لا يكاد يخرج من شفتي: لا عليك أختي الحقيقة فأنا الشاهد على ما تقولين (ليس وحده المجرم) بكيت وبكت معي، والتقت عيناي بعينيها وإذا بهما شريط سينمائي فيه من الأحداث العظام والشواهد ما تنأى عن حمله الجبال، وإذا بالجملة تخرج من بين شفاهنا في آن واحد وبنغمة عاليه ( ليس وحده المجرم ) فكانت كفيلة بأن أوقفت المشفى على قدميه. نعم ليس وحده المجرم، هوني عليك أخت الحقيقة، أتذكرين محمود، ذلك الشاب الثلاثيني والذي هب لنجدة إخوانه في ميدان فلسطين كي يحول بينهم وبين الموت الذي قاده، محمود؟ نعم ذلك الشاب اليافع والذي قتل بدم بارد لأنه سعى لوقف باطل فما كان من المجرم إلا أن صوب بندقيته في رأسه مباشرة وأطلق حقده وكراهيته فإذا به مضرج بدمه، مات أبو فاروق على يد زبانية المجرم، صرخت لتردد مقولتها الأولى ( ليس وحده المجرم) ورمت برأسها على كتفي وتدلت جدائل شعرها على ظهري وبكت. ابكي لا عليك، فانفجرت بالبكاء أكثر، أتذكر أيها الشاهد معي يوم كنا في وكر المجرم نرقب عن بعد جرائمه وهو يعذب الأطهار عذاب الكفار في رمضاء مكة، وهم يصرخون أحد أحد، فرد صمد، فيصرخ بهم ها هو في الدرج وقد أغلق عليه، أتذكر أيها الشاهد هل كان وحده، ألم يكونوا معه، حتى هذا القاضي الذي قال إنه مجرم، إنه مجرم مثله غطى على جرمه بل وأجرم جرماً لا يغتفر، ومازال يرتكب الإجرام جهاراً نهاراً، لأنه يؤمن بقاعدة (لا يلتقي مجرمان في المدينة) فيريد أن يظفر به ليجرم وحده، رغم علمه أن التاريخ لا يرحم والله خير شاهداً. أيها الشاهد صوت ضجيج ينبعث في الطرقات، همسات وصرخات وأنفاس تعلو، أتسمع أصوات الأقدام باتت تقترب وها هي تدنو أسمعها كما سمع سليمان صوت النملة، ما سمعت بها أذن، انظر هناك من بعيد، وقل لي ماذا ترى فأنت الشاهد؟، يا الله جموع غفيرة تقترب نعم تقترب وكل منهم يحمل، قاطعته قائلة: ماذا يحمل؟، لا أكاد أميز، لكثرة الزحام، ثم قالت له اسمع، قال همساً، قالت ركز، قلت أزيز نحل، أتسمعين أنت شيئا؟؟، أتفهمين ما يقولون؟، قالت: هذه الجموع جاءت إلى هنا، وهي تقول: هم الشهود جاؤوا ليقولوا ما قلت في قاعة المحكمة ( ليس وحده المجرم) ويزيدوا ولستم وحدكم الضحايا والشهود. ضج المكان بهم وأحاطونا كالسوار في المعصم، وقالوا جئنا اليوم نلقي بين أيديكم بما لدينا لنؤكد قول الحقيقة (ليس وحده المجرم) ها هي انظروا أكوامًا من الأوراق تثبت وتدين جرم المجرمين ونحن الضحايا والشهود، متى نرى الحقيقة والشهود والمجرم، لا .. المجرمون والحقيقة تكشف سوءتهم، صرخ الجميع بصوت واحد سننتظر ولن يطول الانتظار، وختموا قولهم ( ليس وحده المجرم ).
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.