في أي تقرير إخباري -وهذه تتكرر يوميا في سائر وسائل الإعلام- يحدث أن يحصل ممثلا موقفين سياسيين متعارضين على ذات المساحة، بصرف النظر عن ضخامة أو هامشية القطاع الذي يعبر عنه كل طرف، وغالبا ما يكون أحدهما هامشي الحضور والتأثير مقابل آخر أكثر حضورا وتأثيرا. هل يعني ذلك أننا نطالب بقمع الآراء، أو منحها مساحة تعبر عن حجم وجودها في الشارع؟ سنرد ببساطة قائلين إنه مطلب محق لو كانت هناك عدالة في الدنيا، لكن الدنيا لا تعرف العدالة المطلقة، ولا بد تبعا لذلك من تحمل تبعات الإعلام المفتوح أيا تكن التداعيات. يحدث ذات الشيء فيما يخص التعليقات التي تنشر على المقالات والأخبار، إذ يحدث أن يجيّش نظام عددا من أتباعه (لا يتطلب الأمر سوى بعض عشرات من الموظفين المتفرغين) للرد على المقالات والأخبار التي تخصه، الأمر الذي قد يفضي إلى منح القارئ انطباعا خاطئا بجماهيرية الرأي الذي يمثله، بينما يكون واقع الحال أن أكثر القراء ينتمون إلى تيار الأغلبية الصامتة الذين قد يعجبهم المقال أو الخبر، لكنهم لا يردون ولا يعلقون، وهنا تتبدى معضلة أخرى تتمثل في عزوف قطاعات من الناس، وربما تقاعسها عن نصرة الرأي الذي تراه، حتى وهي تتابع حشدا من التعليقات والردود في الاتجاه الآخر، بخاصة في وسائل الإعلام الجماهيرية التي يتابعها الناس من شتى التيارات. نتحدث إذاً عن ظاهرة، وربما معضلة لا حل لها، ولا سيما أن وسائل الإعلام لا تبحث عن الأخبار التقليدية، بل تبحث عن الإثارة، والإثارة تكمن في تصريح غريب أو مثير، وليس في الأخبار العادية للتيارات السياسية أو الدينية. يحدث في ذات السياق أن يملك تيار سياسي هامشي في الوعي الجمعي للأمة عددا كبيرا من الفضائيات، وبعضها واسع التأثير، وتمعن في الناس توصيفا وتصنيفا، مع أن المالكين لها ومن يديرونها لا يعبرون عن شيء مذكور في الواقع، ولو خاض أحسنهم الانتخابات في مواجهة رجل عادي لخسرها بامتياز، فضلا عن أن يخوضها ضد ممثل تيار سياسي معتبر. سيقول بعضهم إن على التيارات المعبرة عن ضمير الأمة أن تمتلك وسائل إعلام مؤثرة؟ ربما كان ذلك حلا، لكنه حل بالغ الصعوبة في واقع الحال تبعا لما يحتاجه من أموال، وربما مكانا للبث والعمل أيضا.ما يمنح المخلصين بعض الارتياح في مواجهة هذه الظاهرة هو المخزون الثقافي لهذه الأمة، ففي حين يمكن لوسائل الإعلام في الغرب أن تجعل من مغنية أو ممثلة شيئا مذكورا تبكيها الملايين لو أصابها مكروه، فإن جماهير أمتنا ليست كذلك، إذ إنها لا تنحاز إلا للصادقين المعبرين عن دينها وضميرها، حتى لو تابعت تلك الممثلة أو المغنية لأغراض التسلية كما أسلفنا. ولو كانت وسائل الإعلام هي ما يحدد توجهات الناس، لكانت الأنظمة قبل عصر الفضائيات معبودة الجماهير، ولكنها لم تكن كذلك في يوم من الأيام رغم الضخ اليومي عن الزعيم الملهم والقائد الرمز. يضاف إلى ذلك أيضا أن الكلمة الطيبة قد باتت واسعة الانتشار أيضا، وتجد لها صدىً في قلوب الناس وعقولهم، ومثلها كما قال القرآن الكريم "كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء"، بينما مثل الكلمة الخبيثة "كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار"