"النظام القوي والدولة الضعيفة" كان وصفا دقيقا لأداء عهد الرئيس المصري السابق مبارك من خلال تحليل الأوضاع المالية لمصر، ولكن بعد الانقلاب العسكري، يمكن القول إن الوضع أصبح "الجيش القوي والدولة الضعيفة"، وخطر هذا الوضع أنه يقلص كافة المؤسسات المدنية في الدولة لصالح الجيش، بغض النظر عن المضار الاقتصادية المترتبة على هذا الوضع.
ويمكننا تقويم الحالة الاقتصادية بمصر في ظل الانقلاب العسكري وتوقع أثرها على المساهمة في حدوث ثورة من خلال الآتي:
مستوى الأفراد
ثمة حالة من التدهور في الاقتصاد المصري لا تخطئها عين، سواء كان ذلك على صعيد الأفراد أو الاقتصاد الحكومي أو مجتمع الأعمال أو في علاقات مصر الاقتصادية الخارجية.
ففي حالة الأفراد تتسع شريحة الفقر بالمجتمع نتيجة السياسات الاقتصادية المتبعة بشأن تخلص الدولة من كافة التزاماتها تجاه المواطن، وتحميله كافة أعباء معيشته، على الرغم من فرض المزيد من الضرائب والرسوم على كافة الخدمات المقدمة من الحكومة.
وإذا كانت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تشير إلى بلوغ نسبة الفقر بين سكان مصر 27.8%، فإن هذه النسبة مرشحة مع تطبيق الإجراءات الخاصة باتفاق صندوق النقد الدولي للقفز إلى معدل 35% أو أكثر، وسوف يكرس ذلك لجوء قطاع لا بأس به من الفقراء والطبقة المتوسطة إلى ممارسة أعمال الاقتصاد الأسود.
فخريطة تصرف الأفراد تجاه الوضع الاقتصادي في مصر يمكن تصورها في ثلاث مكونات، الأول شريحة الأغنياء وهؤلاء نسبة قليلة وسوف تتيح لهم مواردهم المالية التأقلم مع أي تدهور في الأوضاع الاقتصادية، ولكن سيكون ذلك على حساب انخفاض ثرواتهم ودخولهم، أو مستوى غناهم.
أما الشريحة الثانية وهي الطبقة المتوسطة بكافة مستوياتها، فسوف يتصرف أفراد هذه الشريحة من خلال ما لديهم من مدخرات، وبيع ما لديهم من أصول، وسوف تتساقط مستويات من هذه الشريحة إلى الطبقة الفقيرة لتتسع شريحة الفقراء بمصر بمعدلات كبيرة.
والشريحة الثالثة وهي الطبقة الفقيرة لن يكون أمامها سوى الاتجاه إلى الاقتصاد الأسود (الدعارة، السلاح، المخدرات، الاتجار بالبشر، الفساد) أو الثورة. وبذلك ستكون الطبقتان المتوسطة والفقيرة وقود الثورة خلال الفترة القادمة بسبب الأوضاع الاقتصادية السلبية في مصر.
ويمكن الرجوع إلى قائمة كبيرة يعاني منها المواطن خلال السنوات الثلاث الماضية، مثل ارتفاع معدلات البطالة (13%)، وارتفاع معدلات التضخم (16.4% في أغسطس/آب 2016)، وعدم توفر الأدوية وارتفاع أسعارها، وتدني مستوى الغذاء من حيث الجودة وشروط السلامة الصحية، وارتفاع أسعار الكهرباء والمياه والغاز الطبيعي. وينتظر أن تشهد الأسعار ارتفاعات لن يكون في مقدرة الفقراء والطبقة المتوسطة تحملها خلال الفترة القادمة.
مجتمع الأعمال
أما على مستوى مجتمع الأعمال، فتُمثل مزاحمة الجيش لهذا القطاع أبرز مساوئ الإدارة الاقتصادية في ظل الانقلاب العسكري، وكذلك ارتفاع تكاليف الإنتاج سواء فيما يتعلق بتكلفة التمويل، أو ارتفاع تكلفة الطاقة، أو صعوبة توفير العملات الأجنبية، أو انتشار الفساد، أو مزاحمة الحكومة للقطاع الخاص في الاقتراض من الجهاز المصرفي.
وتتجلى هذه السلبيات في ضآلة الناتج المحلي الإجمالي من حيث القيمة أو النوعية، فهو ناتج لا يتناسب مع متطلبات الزيادة السكانية، ولا يفي باحتياجات البلاد من السلع والخدمات، ويكرس للتبعية للخارج.
وإذا كانت حكومات الانقلاب العسكري تدعي حرصها على استقدام استثمارات أجنبية مباشرة، فإن الواقع يشير إلى هروب هذه الاستثمارات، وإلى أن مجال النفط لا يزال هو المجال الوحيد الذي يستقبل تلك الاستثمارات -تمثل حصة قطاع النفط من الاستثمارات الأجنبية بمصر 67%- نظرا للأوضاع الاحتكارية التي تتميز بها تلك الاستثمارات، وللتنازلات الكبيرة التي يقدمها الانقلاب العسكري. ولكن الوضع المالي السيئ لمصر خلال السنوات الماضية، واستمرار أزمة المديونية لشركات النفط الأجنبية قد يؤدي إلى تراجع الاستثمارات الأجنبية في قطاع النفط.
الاقتصاد الحكومي
وفيما يتعلق بالاقتصاد الحكومي، فالمؤشرات توضح تفاقم قضية الدين العام، بشكل كبير، وتعمل السياسات الاقتصادية المتبعة حاليا في مصر على خروج الدين العام (المحلي + الخارجي) عن نطاق السيطرة، فالدين المحلي بنهاية مارس 2016 تجاوز نسبة 100% من الناتج المحلي، ومع تطبيق إجراءات صندوق النقد الدولي، قد تصل نسبة الدين العام للناتج ما يفوق 130%.
وحتى قضية الحصول على حزمة تمويلية عبر اتفاق مع صندوق النقد الدولي بنحو 21 مليار دولار خلال سنوات، لا تسير وفق المخطط لها بسبب تردي الأوضاع المالية لمصر، فرئيسة صندوق النقد الدولي دعت عشية انعقاد اجتماعات مجموعة العشرين بالصين (4 -5 سبتمبر 2016) إلى ضرورة حث المانحين على دعم مصر بما بين 5 و6 مليارات دولار، حتى يمكن للمجلس التنفيذي للصندوق الموافقة على توقيع الاتفاق مع مصر بشكل نهائي. إذًا الحصول على حزمة تمويلية لمصر من صندوق النقد الدولي سيكون عبئا على الدين العام لا يمكن التنبؤ بعواقبه الوخيمة. فمصر للأسف لا تمتلك أي برامج للتعامل مع قضية الدين العام.
وتعد سياسة الجزر المنعزلة في إدارة الاقتصاد المصري سمة مميزة، حيث تتضارب السياسات الاقتصادية بعضها مع بعض، ويلاحظ إطلاق يد البنك المركزي في اتخاذ إجراءات تضر بباقي مكونات السياسة الاقتصادية دون وجود حالة من التنسيق، لتلافي أو التقليل من الآثار السلبية لإجراءات البنك المركزي. وظهرت هذه الإدارة السلبية من خلال تراجع المدخرات الكلية (5.8% من الناتج المحلي) والاستثمار الكلي (14% من الناتج)، مما أدى إلى انتشار البطالة والفقر.
والعلاقات الاقتصادية الخارجية لمصر، تعكسها حالة العجز بـميزان المدفوعات، التي وصلت إلى 3.5 مليارات دولار خلال الفترة (يوليو/تموز 2015 - مارس/آذار 2016)، وهي نسبة مرشحة للزيادة في ظل تراجع كافة موارد مصر من النقد الأجنبي (البترول، الصادرات السلعية، عوائد قناة السويس، السياحة، تحويلات العاملين بالخارج).
لكن سلوك الانقلاب العسكري في علاقاته الاقتصادية الخارجية يعكس حالة من التفريط في حقوق مصر الاقتصادية، وذلك عبر الاتفاقيات المبرمة مع الدول الأجنبية، وبخاصة في مجالات النفط والغاز، أو أعمال البنية الأساسية، وكذلك التفريط في مساحات كبيرة من الأراضي بالداخل لصالح دول أجنبية، وبخاصة لصالح مستثمرين من الإمارات والسعودية.
ولا تزال ورقة إكساب الانقلاب العسكري الشرعية الدولية والإقليمية ضاغطة على سلوكه، ويظهر هذا بوضوح في علاقات الانقلاب العسكري مع بريطانيا وإيطاليا والصين، ولعل دعوة السيسي لحضور اجتماعات مجموعة العشرين بالصين، يشير إلى السلوك الانتهازي للصين في علاقاتها بمصر واستنزاف مواردها الطبيعية، والسيطرة على سوقها الاستهلاكية.
ولقد راهن الانقلاب العسكري في إدارته الخارجية على الدعم الخارجي بشكل كبير، ونال حجما من المساعدات والمنح غير مسبوق، ومع ذلك لم يحسن توظيفه، ويلاحظ أن هذا الدعم شهد تراجعا كبيرا مؤخرا، بسبب سوء إدارة الانقلاب العسكري لما حصل عليه من دعم ومساعدات من جهة، وكذلك تردي الأوضاع الاقتصادية للمانحين الخليجيين بسبب أزمة انهيار أسعار النفط في السوق الدولية من جهة أخرى، وهو تردٍّ يتوقع أن يمتد إلى عام 2020/2021.
ولذلك فالأوضاع المالية لمصر ستدهور أكثر مما هي عليه، ولعل إقدام مصر على اتفاق مع صندوق النقد الدولي خير دليل على هذا التفاقم، فقد استمر مسؤولو الانقلاب من المجموعة الاقتصادية لفترة طويلة يصرحون بأن مصر لن تلجأ لصندوق النقد، وأن ما تحصل عليه من دعم خليجي يكفي احتياجاتها المالية، ولكن الواقع أثبت تهاوي مقولات هؤلاء المسؤولين.
مسلمات تستوجب المراجعة
ثمة مسلمات تتردد عن مناقشة مستقبل الانقلاب العسكري بمصر، منها أن التراجع الاقتصادي لن يسقط الانقلاب، وأن فشل النظام اقتصاديا لا يعني سقوطه. ومن مبررات ضرورة مراجعة هذه المسلمات، أن التراجع في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية نسبي، ولا يمكن أن نطلق العنان لهذا التراجع، ونسلم بأن المواطن سيتعامل مع هذا الأمر بمرونة، فالمواطن له طاقة، وسوف تصل الأمور إلى حد الانفجار. وبالتالي سيكون الاقتصاد أحد أسباب سقوط الانقلاب العسكري بمصر، أو على الأقل تغيير خريطة السلطة.
أما مسألة أن فشل الانقلاب العسكري لا يعني سقوطه، فالسقوط ليست له صورة واحدة وهي رحيل أو تغيير القائمين على أمر السلطة، فتاريخيا النظام سقط في مصر إبان تولي بعض سلاطين أسرة محمد علي للحكم بسبب ارتفاع المديونية الخارجية، وتولي الأجانب إدارة الشؤون الداخلية لمصر، ثم خضوعها فيما بعد للاحتلال الإنجليزي.
ومصر سقطت في عهد مبارك بسبب أزمة المديونية الخارجية، وقبولها بأوضاع سياسية نالت من مكانتها الإقليمية والدولية، وتدخل خارجي في شؤونها الداخلية، وعلى سبيل المثال تتحكم المعونة الأميركية -منذ استخدام أميركا لورقة المعونات وحتى الآن- في مضمون وسير العملية التعليمية، من خلال مكاتبها بمصر.
ونستطيع القول إن الأوضاع الاقتصادية المتردية في مصر حاليًّا المؤهلة لمزيد من الانحدار خلال الفترة المقبلة سوف تؤدي إلى ثورة حقيقة، تصل إلى حد الفوضى.