كلُّ شيءٍ يسيرُ على طبيعتِه في قسم إدخالِ البياناتِ في شركةِ الكهرباء بنابلس، فالموظفون منهمكون في أعمالهم بمن فيهم الموظفُ ماهر صالح.
هذا الرجلُ الذي يستقبلُكَ دوماً بالابتسامة يخوضُ معركةً ضاريةً مع مرضِ السرطان، وحتى الآنَ النتيجةُ في صالِحه.
البدايةُ قبلَ ستِ سنواتٍ مضَت، حينما اكتشفَ إصابتَه بسرطانِ الثدي، ذلك النوعُ الذي نادراً ما يصيبُ الرجال.
شهرانِ ولم يُبلِغ أحداً عن قصتِه حتى أقربَ الناسِ إليه، حتى أتمَّ فحوصاتِه وتقررَ موعدُ عمليتِه.
يقول لـ"فلسطين الآن" إن "صراعه مع المرض بدأ عام 2010 حينما اكتشف الأطباء إصابته بسرطان الثدي، بل ذهب بعضهم إلى إخباره بأن هذا المرض قد يقضي عليه في غضون 6 أشهر".
الإعلان القاسي
أخفى صالح، وهو متزوج ولديه 6 أبناء (3 أولاد و3 بنات)، الأمر عن عائلته مدة شهرين أجرى خلالهما المزيد من الفحوصات، ولكنه اضطر لإخبار الدائرة الضيقة بعد أن حدد له الأطباء موعدا لعملية استئصال الثدي كمرحلة أولى من مراحل العلاج.
يقول إنه "تقبل الأمر ببساطة رغم صعوبته، لإيمانه الراسخ بأن الأعمار بيد الله، وأن الإنسان لا يجب أن يستسلم للمرض مهما كان فتاكا، لكن حالته النفسية الرائعة تلك، لم يجدها لدى أقاربه الذين انهاروا فور علمهم بمرضه".
يصف تلك الساعات العصيبة "كان ثاني أيام العيد، وبعد أن اجتمعنا مساءً في بيتي، جلبت الأوراق الطبية والتقارير، وقلت لهم سأخبركم بشيء، (بكرة عندي عملية)، فنظروا إلى بعضهم باستغراب.. وردت زوجتي "عملية شو؟؟".. فرفعت الأوراق، وقلت لهم بكل هدوء.. (معي سرطان بالثدي، وبكرة رح اعمل عملية استأصله.. وأنا جاهز لكل شيء)،، فانهاروا جميعا .. أبي وأشقائي وزوجتي وبناتي.. وبدأ البكاء.
رحلة العلاج الطويلة
لم يستسلم ماهر، وتوجه فعلا في اليوم التالي لمستشفى رفيديا الحكومي في نابلس، مدفوعا بالأمل والإصرار على الانتصار.. يقول "ذهبت وكأنني في طريقي لاستئصال اللوزتين وليس الثدي... ونجحت العملية، وكان علي الانتقال إلى المرحلة الثانية من العلاج وهي مرحلة "الكيماوي"، فشرح لي الأطباء أنه يتوجب علي الخضوع لست جلسات كيماوي بمعدل جلسة واحدة كل شهر في المستشفى الوطني الحكومي في نابلس".
لم ينتظر ماهر صالح أن يسقط شعره من الكيماوي، بل حلقه هو بيده، حتى لا يمنح هذه الفرصة لمرضه، بل أراد أن يسجل نقطة لصالحه في محاربته للسرطان.
ثقف الرجل نفسه بنفسه، وقرأ عن العلاج الكيماوي، يتابع: "كنت أعلم أن كل جلسة كيماوي تحتاج ما بين 4 - 5 ساعات تكون عصيبة جدا، ومع ذلك أخذت على عاتقي عدم الاستسلام، وقررت الاستفادة من وقتي بتعلم اللغة العبرية من خلال الكتب، وما إن انتهيت من الجلسات التي استمرت 6 شهور حتى تعلمت الكثير من العبرية قراءة وكتابة".
الإشعاعات.. في القدس
كان على ماهر الانتقال للمرحلة الثالثة من العلاج وهي (الاشعاعات)، التي بدأت بعد تسعة شهور من إتمام جرعات الكيماوي. لكن هذه المرة في مستشفى المُطلع في القدس، حيث تلقى 42 جلسة بمعدل جلسة واحدة يوميا، تحمل خلالها الألم ومشقة السفر صباح كل يوم من نابلس إلى القدس والعودة مساء.
عانى أيضا خلالها من رفض الاحتلال إصدار تصريح له لدخول القدس، لكن إصراره ساعده على تخطي كل الحواجز..
المسعف المتطوع!!
لكن المفاجأة أن الرجل في كل مراحل علاجه كان يمارس هواية قد تكون غريبة على شخص مثله، وفي حالته الصحية الصعبة.. فقد كان يحمِلُ حقيبة الإسعاف بصفته مُسعِفا متطوعا في جمعية الإغاثة الطبية الفلسطينية، ويلتحق بالمسيرات السلمية الأسبوعية التي كانت تنظم في مواقع مختلفة في الضفة الغربية ضد الجدار والاستيطان ومصادرة الأراضي، غير آبه بقنابل الغازات السامة والمسيلة للدموع التي من الممكن أن تؤثر على جسده النحيل الذي اكتوى طويلا بالسرطان.
وكان من المعتاد على الزملاء الصحفيين أن يلتقوا مع ماهر صالح خلال تغطيتهم للمواجهة في كفر قدوم أو بلعين أو نعلين أو النبي صالح.. ففي كل مسيرة أو نشاط عام أو عمل تطوعي، يمكنك أن تجده متأبطا حقيبة الإسعاف، ومعلنا جاهزيته التامة لتقديم المساعدة الطبية الأولية لكل من يحتاجها.
عودة المرض
وعودة لمشواره الطويل مع السرطان.. هذا المشوار الذي كاد أن يصل لنهايته.. فبعد أن انتهى العلاج بالإشعاع، أخبره الأطباء أنه تم السيطرة بدرجة كبيرة على السرطان في جسده، لكن هناك نوعا من الأدوية عليه أن يتناوله بقية عمره.
يقول "وضعني الطبيب على قائمة المتابعة لمدة خمس سنوات، بمعنى أن كان يتوجب علي أن أذهب كل شهر وأجري سلسلة من الفحوصات، التي كانت تظهر تباعا تناقصا للأورام السرطانية شيئا فشيء.. حتى حصل ما لم يكن بالحسبان".
ففي بداية نوفمبر الجاري، كان موعد ماهر مع أخر فحص له.. ذهب لطبيبه الذي قال له "يلا روح اعمل فحوصاتك وهات النتائج خلينا نسكر ملفك.. ونبطل نشوفك بالمرة".. وبالفعل وقت قصير حتى عاد ماهر بالنتائج.. نظر إليها الطبيب فتسمّر في مكانه.. وقال لماهر "معلش روح عيدها، في اشي مش واضح"..
قلب ماهر الذي لا يكذبه أبدا أحس بشيء.. لكنه التزم بكلام الطبيب وأعاد الفحوصات، ليبلغ الأخير أنه مصاب بثلاث أنواع من السرطانات.. في الكبد والعظم والأخطر في الرئة.. وأن عليه أن يعود من جديد للعلاج الكيماوي.
يصف ماهر تلك اللحظات بالصعبة؛ لأن النتائج على مدار الأشهر الأخيرة كانت "clean"، "وسبحان الله في آخر فحص تغير كل شيء.. ليتكرر المشهد مع عائلته التي انهارت عندما علمت بالخبر.. بالمقابل كانت هو في قمة صبره وجلده.. وعاد بكل قوة وشجاعة للمستشفى يواجه عدوه اللدود.
معركته مع المجتمع
ومنذُ ذلكَ الوقتِ وماهر يعيشُ حياتَه كما يجبُ أن تكون.. لكن معركتَه مع السرطانِ لا تقلُّ شراسةً مع تلكَ التي يخوضُها مع المجتمعِ بأسره.. الذي ينظرُ لمريضٍ مثلِه بشفقةٍ وتحسر.. لكنه يرفضُ ذلك كما يؤكدُ مديرُه في العمل.
رغمَ أن ماهر قد استسلمَ لقدرِه.. لكنه مزجَ ذلك الاستسلامَ بشيءٍ من التحدي.. حتى يسجلَّ المزيدَ من النقاطِ في مرمى "السرطان".