الأخ عصمت محمد جمعة الذي وافته المنية في البحرين مساء الخميس الثالث من مايو 2012 في حادث مروري هو بمثابة أستاذ فكري لي بل هو أول أساتذتي الفكرييين الذين كان لهم الأثر في تشكيل شخصيتي، فإن كان لي شيء من فضل في هذه الحياة فهو حسنة من حسنات هذا الرجل.. تعرفت على الأخ عصمت في التسعينيات حين كانت حملة الأجهزة الأمنية على الحركات الإسلامية في ذروتها وكان من أبرز نشطاء الدعوة في مدينة رفح في تلك المرحلة العصيبة التي ألقى فيها كثيرون الراية وقعدوا في بيوتهم.. كان شديداً في الحق لا يخاف في الله لومة لائم، حمل الراية حين أسقطها كثيرون وكان عرضةً دائماً لأذى الأجهزة الأمنية فاعتقل ما لا يقل عن تسعة مرات في سجونهم دون أن تلين له عزيمة.. كان شعلةً من نشاط وكان يتميز بالذكاء الحاد والفراسة الشديدة حتى أنني كنت أشعر أنني بما يعتمل في داخلي من خواطر ونوازع ووساوس كتاب مفتوح أمامه، وكان يتميز بالثقافة والاطلاع الواسعين.. كنت أشعر حين أجلس معه بدفء روحي لا أجده عند غيره وكنت أرى فيه ملاذاً أبث له ما أجده من مصاعب وأشواك فيفتح قلبه ويمنحني دفعةً روحيةً ووجدانية.. كنت شبلاً في ذلك الوقت وكنت أتردد على بيته أسبوعياً أنا وعدد من أصدقائي الأشبال أيضاً وكنت أكثرهم محافظةً على الموعد عصر كل خميس ليس انضباطاً مني بقدر ما هو حرص على أجواء الأخوة الدافئة واستمتاعاً بالجرعة الفكرية والمعرفية التي يعطينا إياها في كل لقاء بأسلوب مشوق جذاب قلما وجدت له مثيلاً.. كثيرة هي الدروس التي تعلمتها منه لكن لعل أهمها أنني تعلمت منه ملكة النقد وعدم أخذ الأمور كمسلمات، والتفكير الحر والبعد عن التقليد والاتباع الأعمى..وكان هذا الأثر عميقاً في نفسي حتى أنه هو الذي شكل مسار حياتي الفكرية ولا تزال آثاره واضحةً في فلسفتي في الحياة.. في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 رحل مهاجراً في الأرض لعله يجد مراغماً كثيراً وسعةً بعد أن سدت أمامه المنافذ داخل الوطن، وتوالت السنون وكبر التلميذ واتخذ معلمين كثيرين ليس بدءً من شيخ الحي وليس انتهاءً بالغزالي والقرضاوي وبن نبي وكبار المفكرين، لكن الأثر الذي تركه الأستاذ الأول لا يزال عميقاً يستعصي على المحو والاندثار.. كان قدر عصمت رحمه الله أن يظل مرتحلاً طوال عمره القصير الذي لم يتجاوز الثامنة والثلاثين لا يعرف الاستقرار إليه سبيلاً، حتى أنه رحل عن هذه الدنيا قبل أن يحقق أمنيته في الزواج من الفتاة التي يبحث عنها والاستقرار في وطنه، وإذا كان كتب عليه ألا ينال ما يتمنى في حياته فإن موته في الغربة القاسية وعظم الابتلاءات والشدائد التي تعاقبت عليه وغيابه عن الساحة في سنوات الطمع بعد أن تقدم الصفوف في سنوات الفزع ما يملأ قلوبنا أملاً بأن يغفر الله ويعلي درجته ويدخله دار السلام حيث السلام الذي طال بحثه عنه.. نزل خبر وفاته علي نزول الصاعقة، ثم زاد من صدمتني حين تواصل معي أحد الإخوة غفر الله له معزياً وقال لي وأقسم بالله أن عصمت كان يومياً يرسل معه السلامات إلي وأنه مشتاق للاتصال بي، لكن الأخ لم يوصل هذه الرسائل إلا بعد أن ارتحل عصمت إلى العالم الآخر.. رحمه الله وجزاه خيراً.. " وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ"..
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.