شباب منشغلون , عيونهم شاخصة إلى الأعلى ، ومارة يتعثرون وكادوا يسقطون أرضاً جراء انتباههم لفعل هؤلاء الشباب ، أحدهم صاعد فوق عمود للكهرباء يحاول جاهداً ثتبيت فانوس رمضاني مصنوع يدوياً . بعد وقت من الجهد وارتفاع صوت هذا وتنبيه ذاك "ارفع ، نزل ، هيك كويس " ، أتم الشباب تعليق فانوسهم الرمضاني الذي عكفوا على صناعته أسبوعاً كاملاً قبل حلول الشهر الكريم ، وحان وقت توصيله بالكهرباء ، أضاء الفانوس فتعالت الأصوات فرحاً واعتلت الابتسامة وجوه الشباب والمارة ، والنساء اللاتي يتطلعن إليه من منازلهن من وراء ستار . الفانوس الذي يحمل ألواناً زاهية براقة ، مزين بآيات القرآن وعبارات التهنئة – رمضان كريم – صنعه الشباب بأيديهم وبمجهوداتهم الخاصة ، يقول أبو شهد المشرف على صناعة الفانوس الرمضاني " كلفنا قرابة الثمانين شيكلاً ليخرج بهذه الحلة ". صنع الشباب هيكل فانوسهم من أسياخ الحديد التي يرفض الاحتلال إدخالها عبر المعابر الرسمية والتي يجلبها الغزيون عبر الأنفاق الواصلة بين غزة وجمهورية مصر العربية , وقام أبو شهد بتجميعه ولحم الأسياخ بشكل هندسي متقن ، ليقوم بعدها الشاب محمود بأخذ القياسات وتفصيل القماش بألوانه الزاهية ليغطى الهيكل الحديدي ، بينما انشغل الشاب حمودة بتركيب لوحة كهربائية للإضاءة والزينة . "نريد أن نرسم الابتسامة على وجوه أطفالنا وأبناء شعبنا " ، بهذه العبارة رد أبو شهد على سؤالي عن الهدف من عملهم هذا ، معتبراً هذا الفانوس تعبيراً عن البهجة بقدوم الشهر الفضيل ، ومحاولة لكسر الظلام الذي يلف القطاع جراء الحصار الظالم المفروض عليه منذ خمس سنوات . وصناعة الفوانيس ترجع إلى زمن بعيد تعددت فيه الروايات غير أن أشهرها هي تلك التي تحكي أنه عندما دخل الفاطميون مصر في شهر رمضان، خرج أهالي مصر لاستقبالهم حاملين مصابيحهم للترحيب بهم ومن يومها صارت عادة مقترنة بشهر رمضان وذكرى جميلة يبتهج فيها الكبار والصغار على حد سواء برؤية المصابيح. ويقول التاريخ إنه في يوم 15 من رمضان سنة 362 هجريّة 972 م وصل المُعزّ لدين الله الفاطمى إلى مشارف القاهرة ليتخذها عاصمة لدولته، وخرج سكانها لاستقباله عند صحراء الجيزة ومعهم الفوانيس الملونة حتى وصل إلى قصر الخلافة، ومن يومها صارت الفوانيس من مظاهر الاحتفال بشهر رمضان المعظم. وعجت أسواق قطاع غزة بآلاف الفوانيس الرمضانية متعددة الأحجام متفاوتة الأسعار ، فبمجرد مرورك في أحد أسواق غزة ستجد المنافسة القاسية والشرسة بين باعة الفوانيس الرمضانية ، ترغيباً للناس في شرائها فهذا يدعو لتفريح قلب طفلك ، وهذا يدعو الأمهات لتنوير منازلهم بفوانيس ذات أحجام أكبر وآخر يغني " حالو يا حالو رمضان كريم يا حالو ". كثيرون من العابرون في الأسواق يشترون وكثيرون أيضاً لا يشترون ، أبو محمد يقول وهو يحمل ثلاثة فوانيس من الحجم الصغير " اشتريتها لأرسم الابتسامة على وجوه أطفالي الصغار ولأشجعهم على صيام هذا الشهر وصلاة التراويح ولأحببهم في هذا الشهر الفضيل منذ الآن". وتتراوح أسعار الفوانيس المخصصة للأطفال في غزة ما بين 5 شواكل وصولاً إلى خمسين شيكلاً بألوان وأحجام وأنواع مختلفة . " لم أشتر شيئاً لأن الوضع لا يحتمل والوضع مقتصر على الحاجيات الأساسية " بهذه العبارة ردت علينا أم سلمان بعد أن سألت عن أسعار الفوانيس وعاينتها ، مرجعة السبب إلى ضعف المدخول الشهري وعدم انتظامه . فأم محمد زوجة موظف حكومي يعمل في غزة وأم لخمسة أطفال تعتبر شراء الفوانيس كمالية لا داعي لها في ظل الظروف الصعبة الحالية . ورغم أن الفوانيس التي تملأ الأسواق صينية في معظمها، إلا أنها ستبقى ظاهرة رمضانية بامتياز لا يمكن التخلي عنها ، وستبقى معلماً بارزاً يميز هذا الشهر الفضيل المبارك على مدى الأزمان .
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.